1- طريق الجهاد
2- الابتلاء طريق النَّصر
مقدمة:
إنّ ما يجري اليوم على أرض فلسطين مِن بطولاتٍ وملاحم يسطّرها المجاهدون هناك تدفعنا أن نتصفّح في التّاريخ فننظر فيه ونفتّش عن قصص الجهاد السّابقة في فلسطين، وأصدقُ مصدرٍ نستقي منه التّاريخ هو كتاب ربّنا سبحانه، لأنّنا نوقن أنّ كلّ ما فيه صدقٌ {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النّساء: 87].
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النّساء: 122].
فالتّاريخ قد تقف فيه على أخبارٍ عجيبةٍ جدًا لكن تحار هل تصدّقها أم تكذّبها، فهي مِن الممكنات عقلًا، الّتي تحتمل الصّدق مع غرابتها، فإذا جاءتك هذه الأخبار مِن العليم الخبير جل جلاله سلّمت لها، وتمتاز أخبار القرآن على سواها بأنّها أيضًا ممزوجةٌ بالمواعظ والعبر، فهي ليست مجرّد قصصٍ للتّسلية أو المتعة، بل هي موردٌ مهمٌّ مِن موارد الاعتبار وإجراء القياس، كما وجّهنا القرآن إلى ذلك صراحةً في مطلع قصّة اليهود في سورة الحشر {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2].
فاعتبروا أي قيسوا الأمور بأشباهها، فما رأيتهم اليهود متحصّنين -يظنّون أنّ حصونهم تحميهم مِن أمر الله وقدرته- فاعلموا أنّ جلاءهم وزوالهم ممكنٌ تمامًا، فإنّ ما حصل مِن قبل ممكنٌ، فاللّهمّ اقذف الرّعب في قلوب الصّهاينة وأخرجهم كما أخرجت أسلافهم مِن قبل، يقودنا تصفّح التّاريخ إلى قصّة طالوت وجالوت الّتي أوردتها سورة البقرة، أوَّل سور القرآن بعد الفاتحة.
1- طريق الجهاد
تحدّد القصّة القرآنية الإطار الزّمني للوقائع بأنّها مِن بعد زمن سيّدنا موسى وقبيل حكم داود، ففي هذه الفترة فزع بنو إسرائيل إلى نبيٍّ لهم، وكان قد نزل بهم الذّل والهوان وتسلّط عليهم عدوّهم فعلموا أنّ الحلّ في مجاهدة العدوّ ومقاومته، لكنّ الجهاد يحتاج إلى رايةٍ منصوبةٍ، وقائدٍ يسوس النّاس في حربهم، فيطلب منهم التّقدم حيث يلزم التّقدّم، ويطلب منهم الكفّ حيث يكون أحظّ وأنفع، ففزع بنو إسرائيل إلى هذا النّبيّ يطلبون منه أن يبعث لهم ملكًا ليقاتلوا مِن ورائه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ، يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ، وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللهِ عز وجل وَعَدَلَ، كَانَ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرٌ، وَإِنْ يَأْمُرْ بِغَيْرِهِ كَانَ عَلَيْهِ مِنْهُ).
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 246].
لكنّ النّبيّ لم يسرع إلى إجابة طلبهم وإنّما أراد أن يستوثق منهم، وأن يتأكّد مِن صدق رغبتهم في الجهاد، فالكلام في حال السّعة سهلٌ بسيطٌ، لكنّ العمدة على التّنفيذ وقت الشّدّة، فالحرب تغريرٌ بالنفوس الّتي يضنّ المرء بها أشدّ الضّنّ، وفي الحرب إتلافٌ للأموال الّتي أثبت القرآن حبّ الإنسان لها حبًّا جمًّا، فالقتال مطلوبٌ مِن العباد مع أنّه كرهٌ لهم، لكن عسى أن يكره العباد أمرًا كالجهاد وهو الخير الّذي يندحر به العدوّ وتعزّ بع الأمّة وتُصان للأجيال القادمة كرامتها، أراد النّبيّ أن يستوثق مِن القوم {قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 246].
بيّن القوم استعدادهم للقتال وعلّلوه بأنّهم أُخرجوا مِن الدّيار، وحُقّ لمَن أُخرج مِن دياره أن يقاتل حتّى يردّه الله إليها، لكنّ الواقع العمليّ لم يكن كذلك، فقد فرّ الكثيرون منهم وسقطوا في الامتحانات الّتي تعرّضوا لها، فلنسأل الله سبحانه الثّبات على دِينه وطاعته، أخبرهم النّبيّ بالملك الّذي اختاره الله لهم، فاعترضوا أن لا مال لهذا القائد، لكنّ ميزان الله جل جلاله فيه العلم أرجح مِن المال، فلا يتقايسان {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247].
والله سبحانه هو مالك الملك يؤتيه مَن يشاء، وقد آتاه طالوتَ فليس لأحدٍ أن يعترض على الملك إذا تصرّف في ملكه، وهو العليم بمَن يصلح لهذا الأمر ومَن لا يصلح، فلنسمع ولنطع لأمر ربّنا ولنسلّم له فيما يختار لنا، فالخير فيما اختاره.
2- الابتلاء طريق النَّصر
أثبت طالوت للنّاس ملكه عليهم بأن أجرى الله سبحانه على يديه أمرًا عجيبًا، حملت الملائكة تابوتًا لبني إسرائيل، كانوا قد فقدوه، وكان في هذا التّابوت بقيّةٌ مِن آثار موسى وهارون عليهما السلام، وكانت بنو إسرائيل إذا رأوا التّابوت شعروا بالطّمأنينة والسّكينة، فله رمزيّةٌ عظيمةٌ في نفوسهم {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 248].
وإتيان الملائكة بتابوتٍ مِن العجائب الّتي لو وردت في الإسرائيليّات فقط لما أمكن الجزم بصحّتها، أمّا وقد أتى بها القرآن فنحن أمام حقيقةٍ تاريخيّةٍ وعجيبةٍ مِن العجائب.
وبعد هذه النّعمة سيأتي الابتلاء، فلكلّ حالٍ مقابلٌ، وقد أخبر الملك طالوت جنده أنّ اختبارًا سيخضعون له، وهو أنّهم سيمرّون على نهرٍ وينبغي عليهم ألّا يشربوا منه إلّا اغترافًا غرفةً باليد {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة: 249].
لقد فشل الكثير منهم في الاختبار، ولم يتمكّنوا مِن تجاوزه، وهنا تظهر الحكمة الّتي امتنّ الله سبحانه بها على هذا الملك؛ أن اختبر النّاسَ قبل الحرب بما هو أخفّ منها، فالّذي لا يصبر ألّا يشرب مِن النّهر هو عن الحرب أعجز، وعن بذل النّفس في الوغى أقلّ صبرًا، فليخرج مِن الصّفوف قبل أن تبدأ الحرب فيخرج حينها فيكون في خروجه تخذيلٌ مذمومٌ العاقبة، يريد بذلك أن يقلّل عدد مَن سينكل عند اللّقاء، إذ اللّقاء له هيبته الّتي ستُخرج أيضًا ناسًا آخرين مِن جيشه مِن الميدان {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
لم يبقَ بعد ذلك الامتحان إلّا قرابة ثلاثمئة مؤمنٍ، عَنِ البَرَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، نَتَحَدَّثُ: "أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَرَ، وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلاَثَ مِائَةٍ".
فلنتنبّه عند قدوم الاختبارات والابتلاءات، ولنظهر عندها صبرًا وجلدًا لئلّا يتمّ استبعادنا مِن صفوف المعركة، فهي معركةٌ شريفةٌ ضدّ الباطل، مَن خاضها حاز الشّرف العظيم، والأجر الكبير، {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250].
نحن هنا أمام الفئة المؤمنة الّتي جازت الاختبار وصدقت عند اللّقاء، تدعو وتتضرّع إلى الله عز وجل أن ينصرها على عدوّها.
خاتمةٌ:
لقد مَنَّ الله سبحانه على المجاهدين الصّادقين بالنّصر، فظهر عجز الفئة النّاكصة وضعف إيمانهم، حيث إنّ بعض بني إسرائيل لما برزوا للعدوّ زعموا أنّ النّصر عليه مستحيل، وأنّ الطّاقة اللّازمة لقتاله غير متاحةٍ، ومثل دندنتهم تلك نسمع اليوم دندنةً تقول لا: "طاقة لكم باليهود وجنودهم"، ونحن نسأل الله أن يظهر كذب هؤلاء وزيغ قلوبهم، {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251].
وكان داود في الجند وعلم أنّ الملك أعلن أنّ مَن يقتل طالوت يتزوّج ابنة الملك، ويكون له الملك مِن بعده، فحمل داود على جالوت بمقلاعه فضربه بحجرٍ فصرعه، وهنا مجدّدًا تظهر حكمة الملك في الاستخلاف مِن بعده، فلم يستأثر بالملك مِن بعده لابنه، بل جعله فيمن يظهر شجاعةً وقوّة إيمانٍ في المعركة، وقد جرت عادة الملوك أن يستخلفوا أبناءهم مِن بعدهم، لكن تأمّل في حكمة طالوت، وفي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعمر وعثمان وعليٍّ رضي الله عنهم تجد أنّهم لم يفعلوا ذلك، بل اختير للنّاس مَن يقوم بأمرهم ويصلح شأنهم.
لقد صبر أهل غزّة في جهادهم ضدّ الكفّار صبرًا عجيبًا، وأظهروا بطولاتٍ نادرةً، إنّهم يقاتلون نيابةً عن الأمّة في تلك البقعة المباركة، وقد خذلهم حكّام المسلمين الظّلمة، فمنعوا عنهم المدد، وكذب ناسٌ فادّعوا أنّهم مقاومةٌ لكنّهم نكلوا عن قتال العدوّ بعد ما استفرغوا جهدهم في قتل المسلمين، فشعاراتهم، ضدّ اليهود، وسيوفهم تعمل في دمائنا، فالحمد لله أن أظهر كذبهم وأخرجهم مِن صفوف المقاومين كما أخرج الّذين شربوا مِن النّهر فكان خروجهم خيرًا.