قيام النِّساء.. بواجب الجهاد والبِناء
1- دعوةٌ إلى الحقِّ وجهادٌ في سبيله
2- صبرٌ واحتسابٌ
3- طلبها العلم
مقدمة:
ما تزال قلوب المسلمين معلّقةً فيما يجري في غزّة مِن بطولاتٍ وتصدّياتٍ لمحاولات العدوّ التّوغّل في القطاع المقاوم، ترسانةٌ ضخمةٌ مِن السّلاح المتطوّر؛ بأقسامه البرّيّ والبحريّ والجوّيّ، وجيشٌ يزعم أنّه لا يُقهر، يحاول لأسابيع على التّتالي أن يقتحم قطاعًا ضيّقًا، فلا يتمكّن إلّا مِن التّوغّل في قسمٍ منه، وتنجح مقاومة غزّة في تأخير اقتحامه كلّ هذا الوقت.
إنّ مرور الأسابيع في هذه المواجهة ينبغي ألّا يجعلنا نُعرض عنها ونتجاوزها إلى حياتنا اليوميّة وكأنّ شيئًا لا يحدث هناك، إنّ مِن طبع الإنسان أن يبدي اهتمامًا فيما يطرأ مِن أمورٍ، حتّى إذا ما استقّر هذا الطّارئ واستطال زمانه عزفت النّفس عنه إلى ما اعتادت عليه مِن أمورها اليوميّة، وهذا ما يحتّم علينا أن نقاوم هذه النّزعة الطّبيعيّة وأن تبقى غزّة نصب أعيننا وفي أدعيتنا، إلى أن يُحدث الله لهم فرَجًا ومخرجًا.
شعب غزّة مقاومٌ بكلّ أطيافه، ومِن الأطياف المقاومة: النّساء، إذ يصبرن على ما يترتّب على المقاومة مِن قصفٍ وخوفٍ، وحقّ المرأة الّتي تُنشّأ في الحلية أن تكون آمنةً في بيئةٍ مستقرّةٍ، لكنّ المرأة المسلمة تتخلّى عن ذلك في مقابل نيل شرف حمل الرّسالة الشّريفة، ومِن مفردات الرّسالة الشّريفة أن يدافع المرء عن أرضه ضدّ المحتلّ الظّالم. إنّ صبر نساء غزّة اليوم وجهادهنّ يُذكّرنا بالصّحابيّة الجليلة المجاهدة الصّابرة، صاحبة أكرم مهرٍ عرفته العرب، إنّها أمّ سليمٍ بنت ملحان.
1- دعوةٌ إلى الحقِّ وجهادٌ في سبيله
خطب أمَّ سليمٍ رجلٌ كافرٌ، فدعته للإسلام فأسلم فتزوّجته، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: خَطَبَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ، فَقَالَتْ: وَاللهِ مَا مِثْلُكَ يَا أَبَا طَلْحَةَ يُرَدُّ، وَلَكِنَّكَ رَجُلٌ كَافِرٌ، وَأَنَا امْرَأَةٌ مَسْلَمَةٌ، وَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَزَوَّجَكَ، فَإِنْ تَسْلَمْ فَذَاكَ مَهْرِي، وَمَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، فَأَسْلَمَ فَكَانَ ذَلِكَ مَهْرَهَا، قَالَ ثَابِتٌ: فَمَا سَمِعْتُ بِامْرَأَةٍ قَطُّ كَانَتْ أَكْرَمَ مَهْرًا مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ الْإِسْلَامَ فَدَخَلَ بِهَا فَوَلَدَتْ لَهُ.
وقد جاهدت في سبيل الحقّ الّذي دعت إليه، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ اتَّخَذَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ خِنْجَرًا، فَكَانَ مَعَهَا، فَرَآهَا أَبُو طَلْحَةَ رضي الله عنه، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذِهِ أُمُّ سُلَيْمٍ مَعَهَا خِنْجَرٌ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا هَذَا الْخِنْجَرُ؟) قَالَتْ: اتَّخَذْتُهُ إِنْ دَنَا مِنِّي أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، بَقَرْتُ بِهِ بَطْنَهُ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، اقْتُلْ مَنْ بَعْدَنَا مِنَ الطُّلَقَاءِ انْهَزَمُوا بِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، إِنَّ اللهَ قَدْ كَفَى وَأَحْسَنَ).
وصنعت الطّعام للمجاهدين، عن أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه، قال: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ رضي الله عنه لِأُمِّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَعِيفًا، أَعْرِفُ فِيهِ الجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا، فَلَفَّتِ الخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ يَدِي وَلاَثَتْنِي بِبَعْضِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ، فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي المَسْجِدِ، وَمَعَهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟) فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (بِطَعَامٍ) فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ مَعَهُ: (قُومُوا) فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ رضي الله عنه فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ؟ فَقَالَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ رضي الله عنه حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو طَلْحَةَ رضي الله عنه مَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، مَا عِنْدَكِ) فَأَتَتْ بِذَلِكَ الخُبْزِ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَفُتَّ، وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً فَأَدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ: (ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ) فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: (ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ) فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: (ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ) فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: (ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ) فَأَكَلَ القَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا، وَالقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا.
فتأمّل كيف ظهرت بركة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بيت أمّ سليم.
لقد كانت مِن عائلةٍ مجاهدةٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ بَيْتًا بِالْمَدِينَةِ غَيْرَ بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: (إِنِّي أَرْحَمُهَا قُتِلَ أَخُوهَا مَعِي).
وهي إلى ذلك خالة النّبيّ صلى الله عليه وسلم مِن الرّضاعة.
2- صبرٌ واحتسابٌ
ظهر صبرها عجيبًا يوم فقدت ابنها، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: مَاتَ ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ رضي الله عنه، مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقَالَتْ لِأَهْلِهَا: لَا تُحَدِّثُوا أَبَا طَلْحَةَ بِابْنِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أُحَدِّثُهُ قَالَ: فَجَاءَ فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ عَشَاءً، فَأَكَلَ وَشَرِبَ، فَقَالَ: ثُمَّ تَصَنَّعَتْ لَهُ أَحْسَنَ مَا كَانَ تَصَنَّعُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَوَقَعَ بِهَا، فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهُ قَدْ شَبِعَ وَأَصَابَ مِنْهَا، قَالَتْ: يَا أَبَا طَلْحَةَ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ قَوْمًا أَعَارُوا عَارِيَتَهُمْ أَهْلَ بَيْتٍ، فَطَلَبُوا عَارِيَتَهُمْ، أَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ؟ قَالَ: لَا، قَالَتْ: فَاحْتَسِبِ ابْنَكَ، قَالَ: فَغَضِبَ، وَقَالَ: تَرَكْتِنِي حَتَّى تَلَطَّخْتُ، ثُمَّ أَخْبَرْتِنِي بِابْنِي فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (بَارَكَ اللهُ لَكُمَا فِي غَابِرِ لَيْلَتِكُمَا) قَالَ: فَحَمَلَتْ، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ وَهِيَ مَعَهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَى الْمَدِينَةَ مِنْ سَفَرٍ، لَا يَطْرُقُهَا طُرُوقًا، فَدَنَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَضَرَبَهَا الْمَخَاضُ فَاحْتُبِسَ عَلَيْهَا أَبُو طَلْحَةَ، وَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: يَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ رضي الله عنه: إِنَّكَ لَتَعْلَمُ، يَا رَبِّ إِنَّهُ يُعْجِبُنِي أَنْ أَخْرُجَ مَعَ رَسُولِكَ إِذَا خَرَجَ، وَأَدْخُلَ مَعَهُ إِذَا دَخَلَ، وَقَدِ احْتَبَسْتُ بِمَا تَرَى، قَالَ: تَقُولُ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا أَبَا طَلْحَةَ مَا أَجِدُ الَّذِي كُنْتُ أَجِدُ، انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا، قَالَ وَضَرَبَهَا الْمَخَاضُ حِينَ قَدِمَا، فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقَالَتْ لِي أُمِّي: يَا أَنَسُ لَا يُرْضِعُهُ أَحَدٌ حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَصْبَحَ احْتَمَلْتُهُ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ فَصَادَفْتُهُ وَمَعَهُ مِيسَمٌ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: (لَعَلَّ أُمَّ سُلَيْمٍ وَلَدَتْ؟) قُلْتُ: نَعَمْ، فَوَضَعَ الْمِيسَمَ، قَالَ: وَجِئْتُ بِهِ فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِهِ، وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِعَجْوَةٍ مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ، فَلَاكَهَا فِي فِيهِ حَتَّى ذَابَتْ، ثُمَّ قَذَفَهَا فِي فِي الصَّبِيِّ، فَجَعَلَ الصَّبِيُّ يَتَلَمَّظُهَا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (انْظُرُوا إِلَى حُبِّ الْأَنْصَارِ التَّمْرَ) قَالَ: فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللهِ.
وقد احتسبتْ نخلةً قدّمتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قدم بالمهاجرين مِن مكّة، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ المُهَاجِرُونَ المَدِينَةَ مِنْ مَكَّةَ، وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ -يَعْنِي شَيْئًا- وَكَانَتِ الأَنْصَارُ أَهْلَ الأَرْضِ وَالعَقَارِ، فَقَاسَمَهُمُ الأَنْصَارُ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ ثِمَارَ أَمْوَالِهِمْ كُلَّ عَامٍ، وَيَكْفُوهُمُ العَمَلَ وَالمَئُونَةَ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمُّ أَنَسٍ أُمُّ سُلَيْمٍ كَانَتْ أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، فَكَانَتْ أَعْطَتْ أُمُّ أَنَسٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِذَاقًا فَأَعْطَاهُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّ أَيْمَنَ مَوْلاَتَهُ أُمَّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَرَغَ مِنْ قَتْلِ أَهْلِ خَيْبَرَ، فَانْصَرَفَ إِلَى المَدِينَةِ رَدَّ المُهَاجِرُونَ إِلَى الأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمُ الَّتِي كَانُوا مَنَحُوهُمْ مِنْ ثِمَارِهِمْ، فَرَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُمِّهِ عِذَاقَهَا، وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّ أَيْمَنَ مَكَانَهُنَّ مِنْ حَائِطِهِ.
فاستحقّت لبذلها واحتسابها عناية النّبيّ صلى الله عليه وسلم بها، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَرَّ بِجَنَبَاتِ أُمِّ سُلَيْمٍ، دَخَلَ عَلَيْهَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا".
3- طلبها العلم
وهي إلى جهادها وبذلها تطلب العلم مِن منبعه، جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ، فَهَلْ عَلَى المَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا رَأَتِ المَاءَ) فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ -تَعْنِي وَجْهَهَا- وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَتَحْتَلِمُ المَرْأَةُ؟ قَالَ: (نَعَمْ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا).
لم يمنعها الحياء أن تسأل عمّا يستحي منه النّساء عادةً، وكانت إذ تطلب العلم تراجع وتسأل، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه: أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اجْعَلْ لَنَا يَوْمًا فَوَعَظَهُنَّ، وَقَالَ: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَ لَهَا ثَلاَثَةٌ مِنَ الوَلَدِ، كَانُوا حِجَابًا مِنَ النَّارِ)، قَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: (وَاثْنَانِ).
ومِن مراجعتها النّبيّ صلى الله عليه وسلم ما روى أنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ يَتِيمَةٌ، وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ، فَرَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْيَتِيمَةَ، فَقَالَ: (آنْتِ هِيَهْ؟ لَقَدْ كَبِرْتِ، لَا كَبِرَ سِنُّكِ) فَرَجَعَتِ الْيَتِيمَةُ إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ تَبْكِي، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: مَا لَكِ؟ يَا بُنَيَّةُ قَالَتِ الْجَارِيَةُ: دَعَا عَلَيَّ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ لَا يَكْبَرَ سِنِّي، فَالْآنَ لَا يَكْبَرُ سِنِّي أَبَدًا، أَوْ قَالَتْ قَرْنِي فَخَرَجَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مُسْتَعْجِلَةً تَلُوثُ خِمَارَهَا، حَتَّى لَقِيَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا لَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ) فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَدَعَوْتَ عَلَى يَتِيمَتِي قَالَ: (وَمَا ذَاكِ؟ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ) قَالَتْ: زَعَمَتْ أَنَّكَ دَعَوْتَ أَنْ لَا يَكْبَرَ سِنُّهَا، وَلَا يَكْبَرَ قَرْنُهَا، قَالَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: (يَا أُمَّ سُلَيْمٍ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ شَرْطِي عَلَى رَبِّي، أَنِّي اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي فَقُلْتُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ، وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ، مِنْ أُمَّتِي، بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً، وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
وقد سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن أذكار الصّلاة، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ أَدْعُو بِهِنَّ فِي صَلَاتِي؟ قَالَ: (سَبِّحِي اللَّهَ عَشْرًا، وَاحْمَدِيهِ عَشْرًا، وَكَبِّرِيهِ عَشْرًا، ثُمَّ سَلِيهِ حَاجَتَكِ يَقُلْ: نَعَمْ، نَعَمْ).
فاستحقّت بمزاياها تلك أن تبشّر بالجنّة، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (رَأَيْتُنِي دَخَلْتُ الجَنَّةَ، فَإِذَا أَنَا بِالرُّمَيْصَاءِ، امْرَأَةِ أَبِي طَلْحَةَ، وَسَمِعْتُ خَشَفَةً، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا بِلاَلٌ، وَرَأَيْتُ قَصْرًا بِفِنَائِهِ جَارِيَةٌ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: لِعُمَرَ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ فَأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ) فَقَالَ عُمَرُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَيْكَ أَغَارُ؟
إنّه لفضل عظيمٌ أن يبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأةً بالجنّة على مرأى ومسمع كثيرٍ مِن النّاس، فيعلم النّاس بذلك أنّها فاقتهم، إذ استقرّ لدينا أنّ المبشّر بالجنّة يفضل غيره.
خاتمةٌ:
تنشط الحركة النّسويّة في هذه الأيّام وتزعم أن الإسلام لم يعطِ المرأة حقوقها، لكنّ مَن تأمل سيرة أمّ سليم علم خلاف ذلك، فالمرأة محلّ عناية الشّريعة، كما تُظهر المرأة المسلمة عنايةً بالشّريعة؛ دعوةً إليها وبذلًا في سبيلها وطلبًا للعلم، وقد كانت أخت أمّ سليمٍ محبّةً للجهاد كذلك، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنْ أُمِّ حَرَامٍ، أَنَّهَا قَالَتْ: بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِلًا فِي بَيْتِي، إِذْ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي، مَا يُضْحِكُكَ؟ فَقَالَ: (عُرِضَ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي، يَرْكَبُونَ ظَهْرَ هَذَا الْبَحْرِ، كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ) فَقُلْتُ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: (اللهُمَّ اجْعَلْهَا مِنْهُمْ) ثُمَّ نَامَ أَيْضًا، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي، مَا يُضْحِكُكَ؟ قَالَ: (عُرِضَ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي، يَرْكَبُونَ هَذَا الْبَحْرَ، كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ) فَقُلْتُ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: (أَنْتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ) فَغَزَتْ مَعَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه، وَكَانَ زَوْجَهَا، فَوَقَصَتْهَا بَغْلَةٌ لَهَا شَهْبَاءُ، فَوَقَعَتْ، فَمَاتَتْ.
مِن أهمّ أدوار المرأة -وهي مِن الأدوار الّتي تُغفلها الحركة النّسويّة- أن تقوم بتربية أبنائها والعناية بهم، وهذا ما قامت به أمّ سليمٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ، قَالَ: (أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِي سِقَائِهِ، وَتَمْرَكُمْ فِي وِعَائِهِ، فَإِنِّي صَائِمٌ) ثُمَّ قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ البَيْتِ، فَصَلَّى غَيْرَ المَكْتُوبَةِ، فَدَعَا لِأُمِّ سُلَيْمٍ وَأَهْلِ بَيْتِهَا، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي خُوَيْصَّةً، قَالَ: (مَا هِيَ؟)، قَالَتْ: خَادِمُكَ أَنَسٌ، فَمَا تَرَكَ خَيْرَ آخِرَةٍ وَلاَ دُنْيَا إِلَّا دَعَا لِي بِهِ، قَالَ: (اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالًا وَوَلَدًا، وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ)، فَإِنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ الأَنْصَارِ مَالًا، وَحَدَّثَتْنِي ابْنَتِي أُمَيْنَةُ: أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِي مَقْدَمَ حَجَّاجٍ البَصْرَةَ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ.
فاللَّهمّ بارك في نسائنا المجاهدات الصّابرات الباذلات المحتسبات في غزّة وفي غيرها مِن بقاع العالم الإسلاميّ.