1- نارٌ يُفرُّ منها
2- نارٌ يُسعى لها
مقدمة:
أمرنا الله سبحانه أن ننظر في الكون وفي أنفسنا وأن نتفكّر فيهما {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].
وأنكر جل جلاله على مَن لم ينظر في السّماوات والأرض {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185].
وقال تعال: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6].
وأنكرعز وجل على مَن لم يتفكّر في نفسه {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الرّوم: 8].
وقد أمرنا سبحانه في سورة الغاشية -الّتي يقرؤها الأئمّة في صلاة الجمعة- أن نتفكّر فيما يقع تحت بصرنا مِن حيوانٍ ومخلوقٍ {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17-20].
وإنّ ممّا يقع تحت بصرنا مع بداية الشّتاء، النّار، وما يشبهها مِن مصادر التّدفئة، فالنّاس توقد في بيوتها النّار خلاصًا مِن برد الشّتاء، والواجب على المؤمن في هذه الحال -إضافةً إلى شكر ربّه أن منّ عليه بما يرفع عنه أذى الشّتاء ورهقه- أن يتفكّر في هذه النّار، وأن يطير بفكره إلى نار الآخرة كيف ستكون، وأن يعتبر {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2].
أي قيسوا الأمور بأشباهها، فإذا رأى المؤمن أمرًا في الدّنيا المشهودة طار ذهنه إلى الآخرة الغائبة، يعيش جسده في الدّنيا وعقله في الآخرة، فإذا كان منه ذلك انضبطت جوارحه بأمر الله جل جلاله ونهيه، لينجو يوم الفزع الأكبر.
1- نارٌ يُفرُّ منها
خوّفنا الله سبحانه مِن النّار في مواطن كثيرةٍ {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزّمر: 16].
ووصفها عز وجل بأنّها النّار الكبرى {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى: 12].
وقد توعّد جل جلاله المجرمين بنارٍ يُسحبون فيها على وجوههم {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 47-48].
فيحذر المسلم إذ يرى نار الدّنيا أن يكون في صفّ المجرمين، لئلّا يُسحب على وجهه في نار الآخرة، وقد توعّد الحقّ سبحانه الخرّاصين بالنّار {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذّاريات: 10-14].
وعن مجاهدٍ {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} قال: "الّذين يتخرّصون الكذب".
فيحذر المؤمن مِن الكذب إذ يرى النّار تتّقد أمام عينيه.
وإذا غلى الماء على حرّ موقد الشّتاء تذكّر المؤمن الماء الحارّ في النّار وقارنه بما يشرب أهل الجنّة مِن لذيذ الشّراب {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمّد: 15].
وإذا دارت الأحاديث حول الموقد يتذكّر المؤمن أحاديثًا ستدور في نار جهنّم {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ * وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر: 46-48].
حيث يتخاصمون في النّار {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص: 64].
وإذا لفح حرّ المدفأة وجه المؤمن خشي على وجهه في الآخرة، اللّهمّ حرّم وجوهنا على النّار {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 66].
2- نارٌ يُسعى لها
نار الآخرة أسوأ مصيرٍ يمكن أن يصير المرء إليه، فهي العذاب الأكبر {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} [الغاشية: 23-24].
لكن في المقابل نار الدّنيا في الشّتاء نعمةٌ عظيمةٌ يعرف قيمتها مَن حُرمها، وقد امتنّ الله سبحانه بها على العباد وأمرهم أن يتفكّروا بشأنها فيصِلون إلى تسبيح الله وتنزيهه {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 71-74].
فهي تذكرةٌ؛ تذكّر بنار الآخرة، واختلف أهل التّأويل في معنى المقوين، فقال بعضهم: هم المسافرون، وقال آخرون: عُنِي بالْمُقْوِين: المستمتعون بها، وقال آخرون: بل عُنِي بذلك الجائعون.
وجعل جل جلاله في سورة يس استحالة الشّجر الأخضر نارًا علَمًا على قدرته على إحياء العظام بعد أن تكون رميمًا {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 78-80].
وقد قصّ علينا القرآن رحلةً مباركةً مِن مدين إلى مصر قام بها نبيّ الله موسى عليه السلام وأهله، وذكر لنا سعي النّبيّ في جلب الدّفء إلى عياله {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النّمل: 7].
كان ذلك في جانب الجبل المبارك {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص: 29].
نبيٌّ مبارك في بقعةٍ مباركةٍ يسعى في تأمين ما يصطلي به أهله، فإذا سعى الآباء اليوم في تدفئة عيالهم فليتذكّروا سعي نبيّ الله مِن قبلهم، ولينووا الاقتداء به في ذلك، يرجعون إلى أهليهم بالدّفء، ولأنفسهم بأجر السّعي وأجر التّأسّي والاقتداء {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
على أنّ سعي سيّدنا موسى ابتدأ رغبةً في الحصول على الدّفء لأهله، ولم ينته به إلّا وهو كليم الله، فأكرم به مِن سعيٍ وأجزل بها مِن نتيجةٍ {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30].
وقد قارن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين نار الدّنيا ونار الآخرة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا، مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ) قَالُوا: وَاللهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: (فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا).
فاللّهمّ أنعم علينا بدفء نار الدّنيا وأجرنا مِن نار الآخرة.
خاتمةٌ:
بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم وظيفته حيال الأمّة، وهي أن يقيها النّار، عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا).
وهي وظيفة كلّ وليٍّ حيال مِن يلي أمرهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التّحريم: 6].
فإذا كانت وظيفة الوليّ أن يجلب النّار لأهله شتاءً لئلّا يؤذيهم برده؛ فعليه وظيفةٌ أعظم، وهي أن يقي عياله نار الآخرة، وإذا كانت نار الدّنيا تتّقد بالحطب وما يكون مِنه، فإنّ وقود نار الآخرة النّاس والحجارة، كما لنتذكّر إطفاءها قبل النّوم، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قَالَ: احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَحُدِّثَ بِشَأْنِهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ).
فهي عدوّنا؛ إذ خُلق الشّيطان مِن نارٍ.
ونحن إذ نذكر النّار للتّدفئة والاعتبار لا ننسى نار ظلمٍ تُصبّ على أهلنا وإخواننا في غزّة الجريحة، فنتذكّر نار أصحاب الأخدود، حيث أوقدها الظّالمون للمؤمنين {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج: 4-7].
ونتذكّر نارًا تقحّمها الخليل عليه السلام بنفسه غير هيّابٍ، تقحّمها لأنّه وقف في وجه الكفر آنذاك، وها هم إخواننا ينوبون عن الأمّة في الوقوف في وجه الكفر، والواجب على الأمّة نصرتهم، فاللّهمّ اجعلها عليهم بردًا وسلامًا {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].