1- مقابلة الإحسان بالإحسان
2- البرُّ نجاةٌ، والعقوق هلكةٌ
مقدمة
إنّ مِن أجلّ الحقوق علينا وأعظمها بعد حقّ الله عز وجل: حقّ الوالدين، قال تعالى: {وقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].
قضى الله جل جلاله أوّلًا بوحدانيّته، وأن لا معبود سواه، ثمّ قضى ثانيًا بالإحسان إلى الوالدين، لما في البرّ لهما مِن عظيم العبوديّة لله، ثمّ قرن شكره بشكرهما؛ فقال سبحانه: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14].
لأنّ الله سبحانه هو الخالق الحقيقيّ للبنين والبنات، والوالدان هما سبب هذا الخلق المباشر، فقد بذلا مِن التّضحيات والجهود مِن أجل تربية أولادهم ما يستحقّان المكافأة عليه والبرّ والإحسان، لا سيّما الوالدة؛ الّتي حملت ولدها كرهًا ووضعته كرهًا، وأرضعته لبنًا خالصًا، وتحمّلت في سبيله المشاقّ الصّعبة، فكان حقّها أكبر، وبرّها أوجب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَقُّ مِنِّي بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟ قَالَ: (أُمُّكَ)، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ)، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ)، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أَبُوكَ).
ولقد جاء الإسلام يدعو الأبناء للنّهوض بحقوق الآباء، وجعلها من أهمّ الغايات الواجب على الأولاد تحقيقها، وامتثالها في كلّ مراحل حياتهم، ولا يقتصر على يومٍ واحدٍ في العام، وبهذا يكونون بررةً مؤمنين، ممتثلين قول الله جل جلاله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النّساء: 37].
فلقد قرن الله سبحانه العبادة الخالصة ببرّ الوالدين، وجعل الإحسان للوالدين طاعةً وبرًّا، يوصل صاحبه إلى الرّاحة الدّنيويّة و والسّعادة الأخرويّة، وأمّا عقوق الوالدين فهو كفرانٌ وجحودٌ للجميل، وسببٌ للشّقاوة في الدّنيا قبل عذاب الآخرة، عن بَكَّارِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (كُل ذنُوب يُؤخِرُ اللَّهُ مِنهَا مَا شَاء إِلى يَوم الِقيامةِ، إِلَّا البَغي وعُقوقَ الْوَالِدَيْنِ أَو قَطيعةَ الرَّحِم يُعجِلُ لِصاحِبِها فِي الدُّنيا قَبل المَوت).
وإنّ المحروم حقًّا مَن كان له أبوان ولم يدخل بسببهما الجنّة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ) قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ).
1- مقابلة الإحسان بالإحسان
لقد أمر الله جل جلاله عباده بالإحسان، وأخبر أنّه مكتوبٌ على كلّ شيءٍ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ).
وجعل الإحسان إلى الوالدين أمرًا محتّمًا، وواجبًا مؤكّدًا، فهما أحقّ النّاس بحُسن الصّحبة، وكمال العطف والرّعاية، وأداء الخدمة، وتوفير الرّاحة، وكريم المعاشرة والتّعامل، عًنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَقُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى وَلَدِهِمَا؟ قَالَ: (هُمَا جَنَّتُكَ وَنَارُكَ).
وعلى الولد أن يصحب والديه بالمعروف ولوكانا كافرين، قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].
ولقد ضرب السّلف الصّالح أروع الأمثلة في برّ الوالدين، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: (دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ فِيهَا قِرَاءَةً، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، كَذَاكُمُ الْبِرُّ، كَذَاكُمُ الْبِرُّ).
وقال محمّد بن المنكدر: "في ليلةٍ من ليالي رمضان، كانت أمّي مريضةً، تشكو مِن وجعٍ في رجلها، فبقيت أضغط على موضع الألم في رجلها لأخفّف مِن ألمها، وذهب أخي لصلاة القيام، وما أحبّ أنّ ليلتي بليلته".
هكذا فهموا أنّ برّ الأمّهات أعظم ثوابًا لعظيم ما قدّمته لولدها، قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15].
ولقد أجمل الله جل جلاله الصّورة المثلى للإحسان للوالدين، حينما لا يستطيع أحدهما الاستقلال بنفسه، بل يصبح كلًّا وعبئًا على ولده؛ فقال سبحانه: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23-24].
فمخاطبة الوالدين يجب أن تكون باللّطف واللّين، بعيدًا عن كلمات الضّجر والتّأفّف بوجههما، بل يخفض جانبه متذلّلًا لهما بكلّ تواضعٍ وإحسانٍ، ويدعو لهما بالرّحمة والغفران، وحُسن الجزاء والمثوبة من الرّحيم الرّحمن، ولعِظَم أمر برّ الوالدين فقد قدّم الشّرع برّهما على جهاد النّافلة، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِيِّ، أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ وَقَدْ جِئْتُكَ أَسْتَشِيرُكَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَالزَمْهَا؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلَيْهَا).
2- البرُّ نجاةٌ، والعقوق هلكةٌ
إنّ العبادة لله سبحانه سبيل الكمال، وطريق الهدى بعد الضّلال، تزيد بها النّعم، وتُدفع بها النّقم، وتُنال بها السّعادة، وتتحقّق بها السّكينة، وإنّ برّ الوالدين مِن أعظم العبادات، الّتي كلّفنا الله سبحانه بالتزامها بعد توحيده وإخلاص الدِّين له، كما أنّ عقوق الوالدين مِن أكبر الذّنوب الّتي توجب للإنسان الضّنك والشّقاء، والقلق والعقاب بعد الشّرك بالله عز وجل، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: (أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَوْلُ الزُّورِ، أَوْ قَالَ: وَشَهَادَةُ الزُّورِ).
وإنّ ممّا يُدمي العين، ويُحزن الفؤاد، ما نراه مِن العقوق في هذا الزّمان، وسوء صحبة الأبناء لآبائهم وأمّهاتهم، حتّى رأينا مَن يطيع زوجته ويبرّها، ويعصي أمّه ويغضبها، ويتودّد إلى صديقه، ويعقّ أباه تمرّدًا وطيشًا، وهذا غاية الشّقاء ومنتهى الإجرام، وأبشع صور الإساءة وجحد الإحسان، حيث لم يتذكّر ما قاما به مِن دورٍ صعبٍ وعسيرٍ في إقامة الأسرة، وتنشئة الذّريّة الضّعاف، ولقد جعل الله حقوق الآباء دَيْنًا في رقاب الأبناء، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (بَرُّوا آباءَكُمْ تَبَرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: (رِضَى اللَّهِ فِي رِضَى الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ).
كما حذّر الإسلام مِن دعاء الوالدين على الأولاد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ يُصَلِّي، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهَا، فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي؟ ثُمَّ أَتَتْهُ فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: لَأَفْتِنَنَّ جُرَيْجًا، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ فَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ؟ قَالَ: الرَّاعِي، قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لَا، إِلَّا مِنْ طِينٍ).
فلنتأمّل كيف أنّ عبادة هذا الرّجل الصّالح لم تنقذه لمّا أصابته دعوة أمّه، فكم مِن حقوقٍ لأمّهاتنا في أعناقنا؟!
خاتمةٌ:
لنعلمْ أنّ برّ الوالدين لا ينتهي بموتهما، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ رضي الله عنه: بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ بَعْدَ مَوْتِهِمَا أَبَرُّهُمَا بِهِ؟ قَالَ: (نَعَمْ خِصَالٌ أَرْبَعَةٌ: الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا رَحِمَ لَكَ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِمَا، فَهُوَ الَّذِي بَقِيَ عَلَيْكَ مِنْ بِرِّهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا).
بل إنّ مِن أعظم البرّ أن يصل الرّجل ودّ أبيه، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ: فَقُلْنَا لَهُ: أَصْلَحَكَ اللهُ، إِنَّهُمُ الْأَعْرَابُ وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ).
فلنجتهدْ في برّ الوالدين، فإنّه راحةٌ وسعادةٌ وأمانٌ، وبركةٌ وخيرٌ واطمئنانٌ، ولنحذرِ العقوق، فإنّه إساءةٌ بالغةٌ، وشقاوةٌ دائمةٌ، وإنّه يحرم صاحبه الجِنان، ويوجب له النّيران، ويُغضب الرّبّ، ويمحق الرّزق، ويذهب ببركة العمر، ويسبّب الهموم والآلام، وليتأمّل العاقّ مليًّا أنّ الجزاء مِن جنس العمل، وأنّه كما يدين المرء يُدان، وأنّ جزاء السّيئة سيّئةٌ مثلها، ولَعمري كيف يهنأ مَن عقّ والديه وهما عليه غاضبان؟! وكيف يفرح وهما منه حزينان؟! بل كيف يقدّم أهله وولده عليهما في الإحسان؟! فالمسارعة المسارعة بالتّوبة الخالصة، والبرّ الصّادق، قبل فوات الأوان برحيلهما مِن هذه الدّار، فلا قيمة للدّموع بعد مغادرة الوالدين دار الدّنيا.