1- كيف نستدرك ما فاتنا في العبادة؟
2- حرص السَّلف على تدارك ما فات
مقدمة:
قد يفوّت المرء بعض الخير لأسبابٍ خارجةٍ عن إرادته، فييسّر الله له سبلًا للخير أخرى، عَن أَبِي هُرَيْرةَ رضي الله عنه، قالَ: جاءَ الفُقَراءُ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأَمْوالِ بِالدَّرَجاتِ العُلى والنَّعِيمِ المُقِيمِ؛ يُصَلُّونَ كَما نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَما نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوالٍ، يَحُجُّونَ بها وَيَعْتَمِرُونَ، وَيُجاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ. قال: (أَلَا أُحَدِّثُكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ، أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرانَيْهِ، إلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ؟ تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وثَلاثِينَ) فاخْتَلَفْنا بَيْنَنا، فقالَ بَعْضُنا: نُسَبِّحُ ثَلاثًا وثَلاثِينَ، ونَحْمَدُ ثَلاثًا وثَلاثِينَ، وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلاثِينَ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فقالَ: تَقُولُ: سُبْحانَ اللَّهِ، والْحَمْدُ لِلَّهِ، واللَّهُ أَكْبَرُ، حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ.
فبذلك يدرك الفقير الغنيّ؛ إذ ينشغل الغنيّ بالصّفق في الأسواق، ويتفرّغ الفقير لذِكر الله، وقد جعل الله اللّيل والنّهار خلفةً؛ نعوّض في أحدهما ما فاتنا في الآخر {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].
قال ابن كثير: "فمَن فاته عملٌ في اللّيل استدركه في النّهار، ومَن فاته عملٌ في النّهار استدركه في اللّيل".
1- كيف نستدرك ما فاتنا في العبادة؟
يمكن للمسلم أن يستدرك وِرده مِن اللّيل في النّهار، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ).
قال ابن عبد البرّ: "وهذا الوقت فيه مِن السّعة ما ينوب عن صلاة اللّيل، فيتفضّل الله برحمته على مَن استدرك مِن ذلك ما فاته".
كما يمكن للمرء أن يستدرك ما فاته مِن الخير بالإكثار مِن النوافل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الصَّلَاةُ، قَالَ: يَقُولُ رَبُّنَا سبحانه لِمَلَائِكَتِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ: انْظُرُوا فِي صَلَاةِ عَبْدِي أَتَمَّهَا أَمْ نَقَصَهَا؟ فَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً كُتِبَتْ لَهُ تَامَّةً، وَإِنْ كَانَ انْتَقَصَ مِنْهَا شَيْئًا قَالَ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ قَالَ: أَتِمُّوا لِعَبْدِي فَرِيضَتَهُ مِنْ تَطَوُّعِهِ، ثُمَّ تُؤْخَذُ الْأَعْمَالُ عَلَى ذَاكَ).
كما إنّ حُسن الخُلق مِن وسائل استدراك الخير، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ).
وبتفطير الصّائم يُدرك الكريم الّذي فطّره أجره، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا).
ومَن تعذّر عليه حجّ البيت فله أن يستدرك، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَلَّى الغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ).
ومَن فاته التّسمية في بداية الطّعام فليستدرك، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ).
كما إنّ السّعي على الأرامل -وقد كثرن في هذا الزّمان- يُستدرك به جهاد النّافلة وصيامها وقيامها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ -وَأَحْسِبُهُ قَالَ- وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ، وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ).
وقد شرع الله لعباده تشريعاتٍ يضمنون بها استدراك ما فاتهم مِن أخطاء؛ كالتّوبة وسجود السّهو والوصيّة، فبالتّوبة ترجع الصّفحة بيضاء نقيّة بعد أن اسودّت بالمعاصي، قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النّساء: 17].
2- حرص السَّلف على تدارك ما فات
لقد اختار الله لنبيّه محمّدٍ صلى الله عليه وسلم رجالًا آمنوا به وصدّقوه، وآووه ونصروه، واقتدوا به في الأقوال والأفعال، ممتثلين قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
ولمّا رأوا مِن حرصه على فعل الطّاعات، واغتنام الأوقات في عمل الخيرات، لنيل رضا ربّ البريّات، اجتهدوا في إعمار أوقاتهم في ما يقرّبهم مِن ربّهم، فكانوا يتسابقون في ميادين الخير والبرّ، ويتنافسون في ذلك، حرصًا منهم على الفوز بأعلى الدّرجات، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، يَقُولُ: أَمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟)، قُلْتُ: مِثْلَهُ، قَالَ: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟) قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا.
فإذا حالت ظروف أحدهم بينه وبين أداء عملٍ مِن الأعمال الصّالحة -صلاةً أو صيامًا أو صدقةً أو جهادًا- حزن حزنًا شديدًا، حتى إنّه ليؤثّر في نفسه ألمًا وهمًّا، ولقد صوّر لنا القرآن الكريم حالة المؤمنين في غزوة أحدٍ عندما فاتهم النّصر، فقال سبحانه: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 153].
بل كانوا يحاولون -جاهدين- أن يلحقوا إخوانهم، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللهُ مَا أَصْنَعُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي أَصْحَابَهُ- وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ- ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ الْجَنَّةَ -وَرَبِّ النَّضْرِ- إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ، قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللهِ مَا صَنَعَ، قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ، قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
فإذا كان هذا حال مَن هم أفضل الأمّة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرصهم على الطّاعات، وتدارك ما فاتهم منها، فجديرٌ بالّذين يأتون مِن بعدهم أن ينهجوا نهجهم ليكونوا معهم.
خاتمةٌ:
لقد جعل الله أعمار هذه الأمّة قصيرةً، وكان مِن رحمته بها أن شرع لها مِن الطّاعات ما تُدرك بها مَن سبقها مِن الأمم الّذين يعمّرون طويلًا، ويعملون كثيرًا، ومِن ذلك: ليلة القدر الّتي يفوق أجرها ألف شهرٍ مملوءةٍ بالطّاعات والقربات، كما جعل أجر مَن يصوم رمضان ويتبعه ستًّا مِن شوّالٍ كمَن صام الدّهر كلّه، ولمّا كان مِن طبيعة الإنسان الوقوع في الخطأ والنّسيان والغفلة، كان مِن عظيم منّة الله على عباده أن أكرمهم بما يجبر النّقص في عبادتهم، ليتداركوا ما يفوتهم مِن الأعمال الصّالحة، حيث شرع لهم سجود السّهو جبرًا للخلل الّذي يقع في الصّلاة، وفرض زكاة الفطر طهرةً للصّائم مِن اللّغو والرّفث، كما شُرعت إعادة الصّلاة جماعةً لمَن صلّى منفردًا ليحوز ثواب صلاة الجماعة بالإعادة، و قضاء الصّلاة لمَن كان ناسيًا أو نائمًا، وقضاء الصّيام لمن كان مريضًا أو مسافرًا، حتّى لا يفوتهم أجر هذه العبادات الّتي لم يتمكّن المسلم مِن أدائها في أوقاتها، ولقد كان سلفنا الصّالح لنا أفضل قدوةٍ، وخير أسوةٍ في هذا الميدان، حيث تعلّموا مِن المعلّم الأوّل، والمربّي الفذّ صلى الله عليه وسلم، في الحرص على اغتنام الأوقات في الطّاعات، وتدارك ما فات مِن الصّالحات، فما أحرانا أن نحاسب أنفسنا على تقصيرنا، ونتدارك ما فاتنا فيما بقي مِن أعمارنا، فما زالت أمامنا فرصةٌ سانحةٌ لنا بالتّوبة والإنابة، والطّاعة والقربة، والكيّس الفطن مَن اغتنمها، والجاهل الأحمق مَن غفل عنها، فلم ينتبه إلّا بعد فوات الأوان.