1- خلقٌ ذميمٌ، وآفةٌ مهلكةٌ
2- دواعي الكِبر وبواعثه
مقدمة:
إنّ الدّين الحنيف الّذي شرّفنا الله سبحانه بالانتساب إليه، وجمعنا به بعد شتاتٍ، وهدانا إليه بعد ضياعٍ، يأمرنا بالأخلاق الفاضلة، والآداب الحميدة، وينهانا عن سفاسف الأمور، وسوء الأخلاق، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وأَشْرَافَهَا، وَيَكْرَهُ سَفَاسِفَهَا).
وإنّ مِن جملة الأخلاق السّيّئة المقيتة الّتي جاء الإسلام بمحاربتها: خُلُق الكِبر والخُيَلاء، وما ذاك إلّا لما يجلبه هذا الخلق الذّميم مِن خطرٍ على المسلم في نفسه ومجتمعه، وفي دنياه وآخرته، فيفسد قلبه، ويصدّه عن آيات ربّه، ويبعده عن الله وعن النّاس، قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146].
كما يحرِمه جنّة الله عز وجل ورحمته، عَنْ أَبِي رضي الله عنهُ هرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ صلى الله عليه وسلم اللهِ: (احْتَجَّتِ النَّارُ وَالْجَنَّةُ، فَقَالَتْ هَذِهِ: يَدْخُلُنِي الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ، وَقَالَتْ هَذِهِ: يَدْخُلُنِي الضُّعَفَاءُ وَالْمَسَاكِينُ، فَقَالَ اللهُ عز وجل لِهَذِهِ: أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَرُبَّمَا قَالَ: أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَقَالَ لِهَذِهِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا).
فما أفظعه مِن حرمانٍ! وما أشدّه مِن عقابٍ! حيث يكون المسلم بعيدًا مِن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم العرض على الله جل جلاله، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ أَحَبُّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبُكُمْ مِنِّي، مَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ، وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَسَاوِئُكُمْ أَخْلَاقًا، الثَّرْثَارُونَ، الْمُتَشَدِّقُونَ، الْمُتَفَيْهِقُونَ).
فالكِبر في الإنسان ضلالٌ مبينٌ، وشرٌّ مستطيرٌ، وبلاءٌ مدمّرٌ، يحبط كلّ صالحةٍ، ويهدم كلّ فضيلةٍ، ويوجب غضب الرّبّ وعقابه، ويثير حقد النّاس وازدراءهم، ويُنتج النّفاق والشّقاق، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ تَعَظَّمَ فِي نَفْسِهِ، أَوِ اخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ؛ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ).
فمَن تفكّر في أصل نشأته، عرف ضعفه، وتواضع لربّه، وخفض جناحه للمؤمنين.
1- خلقٌ ذميمٌ، وآفةٌ مهلكةٌ
إنّ مِن أقبح الصّفات الّتي قد يتّصف بها الإنسان: استعظامه لنفسه، وترفّعه على غيره، ورفضه الحقّ، واحتقاره للنّاس، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْر)، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَة، قَالَ: (إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ).
ويكفي في الكِبر ذمًّا وإثمًا أنّه منازعةٌ لله سبحانه في ما اختصّ به نفسه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ جل جلاله قَالَ: (الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، مَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ).
ولقد كان الكبر مِن أوّل الذّنوب الّتي عُصِي الله سبحانه بها، حينما أبى إبليس السّجود لآدم، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34].
ثمّ إنّه سبب هلاك الأمم السّابقة، فقد قال الله سبحانه حكاية عن نوحٍ: {وإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح: 7].
وتبعتهم في العناد و الاستكبار عادٌ، قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصّلت: 15].
كما نهجت نهجهم ثمودٌ، قال سبحانه: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} [الأعراف: 75].
ولقد قال جل جلاله عن قوم شعيبٍ لمّا توعّدوه: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88].
ثمّ إنّ استكبار فرعون الطّاغية لا مثيل له، قال عز وجل: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} [القصص: 39].
ومِن هنا كان الكبر موجبًا لصاحبه دخول النّار، كما قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية: 7-8].
فالجاهل مَن تكبّر فأوقع نفسه بنارٍ تلظّى، والعاقل مَن تواضع ففاز بجنّة المأوى.
2- دواعي الكِبر وبواعثه
يحرص الطّبيب عند معاينة المريض على أن يجد سبب الدّاء، ليصف الدّواء المناسب له، فيقضي على العلّة مِن أساسها، وهكذا يجب علينا أن نشخّص الأمراض المعنويّة الفتّاكة، لنقتلعها مِن جذورها، وإذا ما بحثنا في بواعث مرض الكبر في الإنسان، وجدنا أسبابًا كثيرةً ومتنوّعةً، فمِن النّاس مَن يكون سببُ كِبره منبعثٌ مِن قوّةٍ أعطاه الله عز وجل إيّاها، كما تكبّرت عادٌ بسببها، وتجد في النّاس مَن يتكبّر بسبب ماله وغِناه، حيث يعتقد أنّ المال يرفعه عن غيره، وأنّ الفقراء لا قيمة لهم بنظره، بل حتّى إنّه يأنف مِن مجالستهم، قال سبحانه واصفًا لنا حالة ذلك الكافر في حواره مع المؤمن: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34].
وهذا الّذي منع زعماء قريشٍ مِن الدّخول في الإسلام، حتّى لا يُسوَّى بينهم وبين فقراء المسلمين، فجاءت الآيات الّتي ترشد النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الصّبر مع هؤلاء الفقراء والجلوس معهم، قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
كما تجد في النّاس مَن يتكبّر بسبب جاهه ومنصبه، أو بحسبه ونسبه، فيحتقر مَن هم دُونه، لأنّهم ليس لهم نسبٌ كنسبه، كما تجد مَن يفتخر بما أعطاه الله سبحانه مِن جمال الخِلقَة، فيتكبّر بسببه على مَن لم يُعطَ ذلك، وإنّ مِن أفظع أنواع الكِبر وأقبحها مَن يكون كِبره بسبب علمه وعبادته، فيتكبّر على النّاس؛ لأنّه يرى نفسه أنّه الصّالح مِن دُونهم، وأنّ كلّ النّاس في ضلالٍ مبينٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ)
قال الإمام الذّهبيّ: "وأشرّ الكبر الّذي فيه مَن يتكبّر على العباد بعلمه، ويتعاظم في نفسه بفضيلته، فإنّ هذا لم ينفعه علمه، فإنّ مَن طلب العلم للآخرة كسره علمه، وخشع قلبه، واستكانت نفسه، وكان على نفسه بالمرصاد، فلا يفتر عنها، بل يحاسبها كلّ وقتٍ ويتفقّدها، فإن غفل عنها جمحت عن الطّريق المستقيم وأهلكته، ومَن طلب العلم للفخر والرّياسة، وبطر على المسلمين، وتحامق عليهم وازدراهم، فهذا مِن أكبر الكِبر، ولا يدخل الجنّة مَن كان في قلبه مثقال ذرّةٍ مِن كِبرٍ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم".
وكان مِن الواجب على العالِم أن يقوده علمه إلى التّواضع لعباد الله سبحانه، وخفض الجناح للمؤمنين، فيعلّم النّاس ممّا علّمه الله جل جلاله، ويقبل الحقّ ممّن سواه، ويجالس الفقراء والمساكين، ويبذل الخير للآخرين ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
خاتمةٌ:
لقد قرّرت شريعتنا الغرّاء أنّ الجزاء مِن جنس العمل، فكما كان المتكبّرون ينظرون للنّاس بعين الذّل والاحتقار، وأنّهم فوقهم في المكانة والرّفعة، فإنّ الله سبحانه سيجعل الذّلّ يغشى المتكبّرين يوم القيامة مِن كلّ مكانٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَمْثَالَ الذَّرِّ، فِي صُوَرِ النَّاسِ، يَعْلُوهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الصَّغَارِ، حَتَّى يَدْخُلُوا سِجْنًا فِي جَهَنَّمَ، يُقَالُ لَهُ: بُولَسُ، فَتَعْلُوَهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ، عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ).
فالواجب على المسلم أن يتعرّف على صُوَر الكِبر وأشكاله، ليحذرها ويجتنبها، حيث إنّ منها ما يكون في اللّباس مِن أجل الشّهرة والخُيلاء، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (بَيْنَا رَجُلٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَ فِي بُرْدَيْنِ أَخْضَرَيْنِ، يَخْتَالُ فِيهِمَا، أَمَرَ اللهُ الْأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ، وَإِنَّهُ لَيَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
وقد يوسوس الشّيطان للإنسان الأكل بشماله أو الشّرب بها، وما يدفعه لذلك إلّا الكِبر، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ بُسْرُ ابْنُ رَاعِي الْعِيرِ أَبْصَرَهُ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ فَقَالَ: (كُلْ بِيَمِينِكَ)، فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، فَقَالَ: (لَا اسْتَطَعْتَ)، قَالَ: فَمَا وَصَلَتْ يَمِينُهُ إِلَى فَمِهِ.
فمَن وجد في نفسه شيئًا مِن الكِبر فليوطّن نفسه على التّواضع، وعدم التّرفّع، وذلك بمجالسة ضعاف النّاس وفقرائهم، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجالس المساكين والفقراء، كما عليه أن يتفكّر في نِعَم الله عز وجل عليه، وما هو حاله لو أنّ الله سبحانه سلبه نعمةً واحدةً، وليعلمْ أنّ مِن أنجع الأدوية لعلاج الكِبر أن ينظر في سِيَر وأخبار المتكبّرين كيف كانوا؟ وإلى أيّ حالٍ أصبح مآلهم! كإبليس والنّمرود، وفرعون وهامان وقارون، وأبي جهلٍ وسائر الطّغاة والمتكبّرين في كلّ عصرٍ وزمنٍ، فإنّ ذلك ممّا يلقي الرّعب في النّفوس، ويحمل القلوب على التّوبة والرّجوع إلى الله جل جلاله، ومِن ثمّ ليحرصْ على حضور مجالس العلم الشّرعيّ، لا سيّما مجالس التّزكية والأخلاق، حتّى تزكو نفسه، ويرقّ قلبه، فيتواضع لخالقه ومولاه، ويرحم عباد الله.