1- مسيرةٌ طويلةٌ مِن الكفاح
2- الفتح المبين
مقدمة:
تدور الأيّام وتمضي الشّهور، ومعها تنقضي الأعوام والأعمار، فتظهر أجيالٌ وتفنى أجيالٌ، لكنّ التّاريخ صفحةٌ تتكرّر، فالعاقل يفزع إليه دائمًا؛ لينظر ما كان في تلك الصّفحة مِن قبل فيستشرف منها ما سيكون، ويأخذ منها العبرة.
اقرؤوا التّاريخ إذ فيه العبر ضلّ قومٌ ليس يدرون الخبر
والتّاريخ أقسامٌ وتاراتٌ، وأكثر قسمٍ يعتدّ به المسلمون ويأنسون بقراءته وتذاكره هو عصر السّعادة، حيث كانت شمس النّبوّة تُمدّ النّاس بنورها ودفئها، فتحيي ما بلي مِن الأخلاق الحسنة، وتبعث المعاني السّامية في النّفوس، حيث كان نهر الوحي يتدفّق عذبًا طيبًا يروي العطاش.
وما راع الأنام وهم نيامٌ سوى شمس النّبيّ على التّلال
كصرعى لا حراك بهم فجاءتـــــــ ـــــــهُمُ روحٌ فأحيت كلّ بال
كصادٍ في المفازة دون ماءٍ يرى نهرًا مِن العذب الزّلال
فيرويه ويؤويه إليه مِن الحرّ الشّديد إلى الظّلال
فذاك نبيّنا روحٌ ونورٌ ونهرٌ دام منبعث النّوال
وبما أنّنا استقبلنا شهر ذي القعدة فلنرجع إلى السّيرة العطرة فننظر في أخبارها، ما الّذي كان في مثل هذا الشّهر؟ فإذا علمنا اعتبرنا وتأسّينا، فالله يأمرنا بالتّأسّي به، إذ يقصّ علينا طرفًا مِن سيرته يوم الأحزاب {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
1- مسيرةٌ طويلةٌ مِن الكفاح
السّياق التّاريخيّ لصُلح الحديبية يقع ضمن المواجهة بين الحقّ -الّذي كان يمثّله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يومها في المدينة- والباطل الّذي كان يمثّله يومها كفّار قريش قبل أن يسلموا لاحقًا يوم الفتح، وقد بدأ ذلك الجهاد بالقول؛ عندما أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يبلّغ دعوة الله جهرًا {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94].
فاعترض كفّار قريش سبيل الدّعوة بما أمكنهم مِن تعذيبٍ للضّعفاء ومحاولات تشويهٍ للرّسالة ومكرٍ بحاملها {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 30-31].
فاستدعت تلك المواجهة هجرةً في سبيل الله، فكانت أولاها وثانيتها نحو الحبشة، ثمّ كانت الهجرة الكبرى الّتي انتقل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن بلده الّتي أحبّ إلى يثرب الّتي تنوّرت بقدومه فصارت المدينة المنوّرة، ثم انتقل الجهاد بعدها إلى جهادٍ بالنّفس بحمل السّلاح في سبيل الله بعد أن كان المسلمون مأمورون في مكّة بكفّ اليد {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النّساء: 77].
فاستجاب المؤمنون لداعي الجهاد ونازلوا الكفّار في بدرٍ فانتصروا انتصارًا كان له صداه الواسع في جزيرة العرب، ثمّ كان ما كان يوم أحدٍ، وتلاه يوم الأحزاب إذ رمى الكفّار واليهود المسلمين عن قوسٍ واحدةٍ فردّ الله الكفّار بغيظهم، وأذلّ حلفاءهم مِن اليهود {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 25-27].
بعد هذه السّنوات الطّويلة مِن المجاهدة باللّسان والقرآن {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52].
والجهاد بالسّيف والسّنان، أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم للنّاس أنّه متوجّهٌ إلى زيارة بيت الله الحرام بعد أن رأى أنّه يدخله آمنًا {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27].
ورؤيا الأنبياء وحيٌ.
2- الفتح المبين
اعترض الكفّار طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعقد الصّلح معهم على غير رضىً مِن المسلمين لما رأوا فيه مِن شروط اعتبروها مجحفةً، فقد روى البخاريّ أنّه قَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ رضي الله عنه يَوْمَ صِفِّينَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ، لَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا، وَذَلِكَ فِي الصُّلْحِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ قَالَ: (بَلَى)، قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: (بَلَى)، قَالَ: فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا، وَنَرْجِعُ، وَلَمَّا يَحْكُمِ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَقَالَ: (يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللهُ أَبَدًا)، قَالَ: فَانْطَلَقَ عُمَرُ فَلَمْ يَصْبِرْ مُتَغَيِّظًا، فَأَتَى أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا، وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللهُ أَبَدًا، قَالَ: فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْفَتْحِ، فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ، فَأَقْرَأَهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْ فَتْحٌ هُو؟ قَالَ: (نَعَمْ)، فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَرَجَعَ.
وقد أنزل الله في الصّلح سورة الفتح، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَعُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلًا، فَسَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا عُمَرُ، نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ لاَ يُجِيبُكَ، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي ثُمَّ تَقَدَّمْتُ أَمَامَ المُسْلِمِينَ، وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ فِيَّ قُرْآنٌ، فَمَا نَشِبْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي، قَالَ: فَقُلْتُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ، وَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: (لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ، لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ).
ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1].
وقد رأى المسلمون في ذلك اليوم بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَنِ البَرَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا، وَنَحْنُ نَعُدُّ الفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ، كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، وَالحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ، فَنَزَحْنَاهَا فَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَاهَا، فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِهَا ثُمَّ (دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَدَعَا ثُمَّ صَبَّهُ فِيهَا، فَتَرَكْنَاهَا غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ إِنَّهَا أَصْدَرَتْنَا مَا شِئْنَا نَحْنُ وَرِكَابَنَا).
لقد بدأ الأمر باعتراض بعض الصّحابة على بنود الصّلح ولم ينته إلّا عن فتحٍ مبينٍ، وأظهر مرور الأيّام حكمةً النّبيّ صلى الله عليه وسلم البالغة، فما اعترضوا عليه مِن شروطٍ استحال لصالح المؤمنين.
خاتمةٌ:
لمّ يتمّ الصّلح فور اعتراض الكفّار طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، بل كانت هناك رسلٌ ومفاوضاتٌ، وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم صهره عثمان بن عفّان رضي الله عنه رسولًا إلى قريش، فاحتبسوه حتّى تأخّر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاع أنّ قريش قتلته، فانتدب رسول الله صلى الله عليه وسلم النّاس إلى القتال، وأخذ منهم البيعة {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 18-20].
ثمّ عاد عثمان رضي الله عنه ولم يكن قتالٌ، فتأمّل شجاعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقبالهم على الموت في سبيل الله، وهذا ممّا يُحمَد به المؤمن، وقارن هذا بالّذي يودي بنفسه إلى الهلاك دُون مقابلٍ، فقط ليفرّ مِن آلامٍ يعانيها في هذه الدّنيا الفانية، إنّ الإقبال على الموت في سبيل الله شرفٌ عظيمٌ على النّقيض تمامًا مِن إهلاك الأنفس انتحارًا، وتأمّل قوّة إيمان الصّحابة رضي الله عنه إذ يبايعون رسول الله، فقد علم الله ما في تلك القلوب وأثابهم بذلك فتحًا قريبًا، فلنعتنِ بمكنونات قلوبنا وبإيماننا في هذا الزّمان الّذي أنشأ فيه أعداء الدّين مراكز لنشر الإلحاد والبعد عن الإيمان، ولنتذكّر أنّه يتعيّن علينا ألّا نقصّر في مجاهدة الكفّار مهما طال الزّمان، حتّى يأتي إذن الله بالفتح المبين.