1- يوم يئس الكفرة
2- مع المصطفى في عرفة
مقدمة:
استقرّ في شريعتنا فضلٌ عظيمٌ ليوم عرفة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (اليَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ القِيَامَةِ، وَاليَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، وَمَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلاَ غَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْهُ، فِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ بِخَيْرٍ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، وَلاَ يَسْتَعِيذُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْهُ).
وهو الوتر {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 1-3].
الشّفع: يوم النّحر، والوتر: يوم عرفة.
وقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنه: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟).
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا فَنَادَى (الْحَجُّ، الْحَجُّ، يَوْمُ عَرَفَةَ...).
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
فهل نصومه؟ وقد ورد عَنْ أُمِّ الفَضْلِ، شَكَّ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ.
وعن عُقْبَةَ بْن عَامِرٍرضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ).
نعم، نصومه؛ فتلك الأحاديث في الحاجّ، أمّا غيره فقد ورد عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ).
1- يوم يئس الكفرة
الآية الثّالثة مِن سورة المائدة تنصّ على يومٍ يئس فيه الكفّار مِن دِيننا، ويومٍ أكمل لنا الله فيه دِيننا، وأتمّ فيه علينا النّعمة، يقول الله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3].
ومعناها: الآن انقطع طمع الأحزاب وأهل الكفر والجحود -أيّها المؤمنون- {مِنْ دِينِكُمْ}، أن تتركوه فترتدُّوا عنه راجعين إلى الشّرك، فإن قال قائلٌ: وأيُّ يومٍ هذا اليوم الّذي أخبرَ الله أنّ الّذين كفروا يئسوا فيه مِن دِين المؤمنين؟ قيل: ذُكر أنّ ذلك كان يوم عرفة، عام حجّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حجّة الوداع، وذلك بعد دخول العرب في الإسلام، {فَلا تَخْشَوْهُمْ} يعني بذلك: فلا تخشوا -أيّها المؤمنون- هؤلاء الّذين قد يئسوا مِن دينكم أن ترجعوا عنه مِن الكفّار، ولا تخافوهم أن يظهروا عليكم، فيقهروكم ويردُّوكم عن دينكم {وَاخْشَوْنِ}، يقول: ولكن خافونِ، إن أنتم خالفتم أمري واجترأتم على معصيتي، وتعدَّيتم حدودي، أن أُحِلَّ بكم عقابي، وأنزل بكم عذابي، اليوم أكملت لكم -أيّها المؤمنون- فرائضي عليكم وحدودي، وأمري إيّاكم ونهيي، وحلالي وحرامي، وتنزيلي مِن ذلك ما أنزلت منه في كتابي، وتبياني ما بيَّنت لكم منه بوحيي على لسان رسولي، والأدلّة الّتي نصبتُها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه مِن أمر دِينكم، فأتممت لكم جميع ذلك، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم، قالوا: وكان ذلك في يوم عرفة، عام حجَّ النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوَدَاع، وقالوا: لم ينزل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيءٌ مِن الفرائض، ولا تحليل شيءٍ ولا تحريمه، وأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلّا إحدى وثمانين ليلةً، وقال آخرون: معنى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، حجّكم، فأُفردتم بالبلد الحرام تحُجُّونه، أنتم أيّها المؤمنون، دُون المشركين، لا يخالطكم في حَجِّكم مشركٌ، قوله: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} يعني جلّ ثناؤه بذلك: وأتممت نعمتي -أيّها المؤمنون- بإظهاركم على عدوِّي وعدوّكم مِن المشركين، ونفيِي إياهم عن بلادكم، وقطعي طمعهم مِن رجوعكم وعودكم إلى ما كنتم عليه مِن الشّرك، قوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} يعني بذلك جلّ ثناؤه: ورضيت لكم الاستسلام لأمري، والانقياد لطاعتي، على ما شرعت لكم مِن حدوده وفرائضه ومعالمه، {دِينًا} يعني بذلك: طاعةً منكم لي.
وهذه الآية هي الّتي قال اليهوديّ فيها: أن لو نزلت عليهم لاتّخذوا يوم نزولها عيدًا، فقد نزلت في عيدٍ، يوم جمعةٍ وعرفةٍ.
2- مع المصطفى في عرفة
لم يُكتب لنا الحجّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنّ أحد أحفاده أتى الصّحابيّ الجليل جابر بن عبد الله ب متشوّقًا إلى معرفة حجّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فوصف له وصفًا طويلًا، نقتصر منه على يوم عرفة بعد المقدّمة، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، فَسَأَلَ عَنِ الْقَوْمِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ، فَقُلْتُ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِي فَنَزَعَ زِرِّي الْأَعْلَى، ثُمَّ نَزَعَ زِرِّي الْأَسْفَلَ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ شَابٌّ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ، يَا ابْنَ أَخِي، سَلْ عَمَّا شِئْتَ، فَسَأَلْتُهُ... فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: بِيَدِهِ فَعَقَدَ تِسْعًا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَاجٌّ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ... ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ، نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ، مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ، وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ، وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ... حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟) قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ (اللهُمَّ اشْهَدْ، اللهُمَّ اشْهَدْ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا، حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ، وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى (أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ) كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنَ الْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا، حَتَّى تَصْعَدَ، حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ.
خاتمةٌ:
وإذا كنّا استعرضنا طرفًا مِن فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم عرفة إذ حجّ، فلنستعرض طرفًا مِن فعل الصّحابيّين الجليلين اللّذين يزعم الشيعة أنّهما في عداءٍ حاشاهما، عَنْ جَابِر رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَجَعَ مِنْ عُمْرَةِ الْجِعِرَّانَةِ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ، فَأَقْبَلْنَا مَعَهُ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَرْجِ ثَوَّبَ بِالصُّبْحِ، ثُمَّ اسْتَوَى لِيُكَبِّرَ فَسَمِعَ الرَّغْوَةَ، خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَوَقَفَ عَنِ التَّكْبِيرِ، فَقَالَ: هَذِهِ رَغْوَةُ نَاقَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لَقَدْ بَدَا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَجِّ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنُصَلِّي مَعَهُ، فَإِذَا عَلِيٌّ عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أَمِيرٌ أَمْ رَسُولٌ؟ فَقَالَ: لَا، بَلْ رَسُولٌ، أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِبَرَاءَةَ أَقْرَؤُهَا عَلَى النَّاسِ فِي مَوَاقِفِ الْحَجِّ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ، فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَخَطَبَ النَّاسَ فَحَدَّثَهُمْ عَنْ مَنَاسِكِهِمْ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَامَ عَلِيٌّ فَقَرَأَ عَلَى النَّاسِ بَرَاءَةَ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ خَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَخَطَبَ النَّاسَ فَحَدَّثَهُمْ عَنْ مَنَاسِكِهِمْ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَامَ عَلِيٌّ فَقَرَأَ عَلَى النَّاسِ بَرَاءَةَ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ خَرَجْنَا مَعَهُ، ثُمَّ كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فَأَفَضْنَا، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو بَكْرٍ خَطَبَ النَّاسَ فَحَدَّثَهُمْ عَنْ إِفَاضَتِهِمْ وَعَنْ نَحْرِهِمْ وَعَنْ مَنَاسِكِهِمْ، فَلَمَّا فَرَغَ قَامَ عَلِيٌّ فَقَرَأَ عَلَى النَّاسِ بَرَاءَةَ حَتَّى خَتَمَهَا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلُ قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَخَطَبَ النَّاسَ فَحَدَّثَهُمْ كَيْفَ يَنْفِرُونَ وَكَيْفَ يَرْمُونَ، فَعَلَّمَهُمْ مَنَاسِكَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغَ قَامَ عَلِيٌّ فَقَرَأَ بَرَاءَةَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى خَتَمَهَا.
فتأمّل كيف أنّ عرفة يوم حجّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كانت ظرفًا لقراءة آيةٍ يأس الكفّار مِن دِين الله، وتأمّل كيف أنّها كانت يوم حجّ أبو بكرٍ رضي الله عنه بالنّاس ظرفًا لقراءة آيات البراءة مِن الكفّار، وكذا نرى في الحديث تعاون الصّحابيّين الجليلين في تنفيذ أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ليُرغموا بذلك معاطس زعم أصحابها أنّهما اختلفا.