1- شكر الآلاء، يزيد في العطاء
2- الاقتداء بالرُّسل، في عبادة الشُّكر
مقدمة:
لقد أنعم الله على العباد بنِعمٍ كثيرةٍ، وجاد عليهم بخيراتٍ وفيرةٍ، غفلت عنها القلوب، وجهلت قيمتها النّفوس، ولقد خلقهم في أحسن تقويمٍ، وأمدّهم بوابلٍ من الإدراك والمعرفة، ثمّ أرسل إليهم المرسلين، يرشدونهم للحقّ والإيمان واليقين، ويبصّرونهم سُبُل الهدى والرّشاد، ويسلكون بهم طريق الأمن والسّلام، وهذا من أجلّ نِعم الله على العباد، {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 151-152].
ومنحهم ربّهم القوّة والعافية، وصحّة البدن وسلامة الأعضاء، وأسبغ عليهم نِعمه ظاهرةً وباطنةً {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النّبأ: 6-16].
وأخبرهم أنّه سخّر ما في السّماء والأرض لخدمتهم {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم: 32-33].
وهذا يوجب على العباد أن يشكروا المنعم ولا يكفروه، وأن يذكروه ولا يغفلوا عنه، وأن تلهج ألسنتهم بتسبيحه وتحميده، وتمجيده والثّناء عليه، في كلّ وقتٍ وحينٍ، ذلك لأنّ الله تفضّل عليهم بالنّعم وهو الغنيّ عنهم، ووهبهم الخير وهو ليس في احتياجهم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15].
فبالشّكر تدوم النّعم وتزداد، وتدفع البلايا والنّقم وتزول.
1- شكر الآلاء، يزيد في العطاء
الشّكر لله على نِعَمه خُلقٌ عظيمٌ، ومقامٌ كريمٌ، يصدر عن النّفوس المؤمنة، والقلوب الطّاهرة، وهو ظهور أثر نِعَم الله على لسان عبده ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه محبّةً وشهودًا، وعلى جوارحه طاعةً وانقيادًا، وأن تكون حركات العبد وسكناته، وخواطره ومشاعره، ناطقةً بالحمد والثّناء على ما أولاه الله مِن المِنَن والآلاء، والفضل والعطاء {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النّحل: 78].
ولقد لفت انتباهنا إلى آياته الّتي بثّها في الكون لنشكره عليها {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس: 33-35].
وإنّ الشّكر بمثابة القيد للنّعمة الموجودة، والصّيد للنّعمة المفقودة، وأقسم ربّنا على زيادة العطاء بعد الشّكر والثّناء، وأنّ العذاب شديدٌ لمَن جحد النّعماء {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
ولقد أمرنا مولانا بذِكره وشكره {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].
وكم يَحزن القلب عندما نرى بعض النّاس قد انصرفوا عن شكر خالقهم ورازقهم، وغفلوا عن تقدير نِعَمه، فوقعوا في الذّل والهوان، واستحقّوا العذاب والنّكال {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النّحل: 112].
فإذا شكر العبيد ربّهم، برهنوا بشكرهم على تقديرهم للنّعم، وتعظيمهم للمنعم الأوحد المتفضّل، فيسخّرون نِعَمه في طاعته، وعندئذٍ يكرمهم بالحياة الطّيّبة في الدّنيا، والفوز العظيم في الآخرة {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النّحل:97].
وإنّ شكر الله مطلوبٌ مِن العبد في كلّ أحواله، في يُسره وعُسره، وغناه وفقره، وصحّته وسقمه، وبذا ينال الدّرجات العلى مِن الجنّة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّةِ الْحَمَّادُونَ، الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللهَ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ).
وإنّ المؤمن الحقّ لَيستعظم نِعَم الله عنده ولو كانت قليلةً، فهو ينظر بقلبه إلى المعطي لا إلى العطيّة، فيرى كلّ ما أكرمه به العظيم عظيمًا، فيزداد شكرًا لله، وحبًّا وتعظيمًا لخالقه ومولاه.
2- الاقتداء بالرُّسل، في عبادة الشُّكر
لقد وصف الله ذاته العليّة بأنّه شاكرٌ وشكورٌ، وسمّى الشّاكرين بهذين الاسمين، فأعطاهم مِن وصفه، وسمّاهم باسمه، وحسْبهم بهذا محبّةً للشاكرين وفضلًا {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشّورى: 23].
ولقد رضي الله الشّكر مِن عباده، لأنّه سبب سعادتهم في الدّنيا والآخرة {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزّمر: 7].
والشّكر لله خُلق الأنبياء والمرسلين، وحلية الأبرار والمقرّبين، وأثنى على أنبيائه المرسلين الشّاكرين، فقال عن نوحٍ: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3].
وأثنى على إبراهيم ؛ فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النّحل: 121-122].
وأخبر على لسان سليمان: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النّمل:40].
وأمر داود وآله فقال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13].
وأوصى رسوله محمّدًا صلى الله عليه وسلم فقال: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزّمر: 66].
فكان صاحب المثل الأعلى في الشّكر، عَنِ الْمُغِيرَةِ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ: (أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا).
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: فَقَدْتُ النَّبِيَّ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَجَعَلْتُ أَطْلُبُهُ بِيَدِي، فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى قَدَمَيْهِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ: (أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ).
ولقد أخبرنا الله عز وجل أنّ مِن طبع الإنسان الجحود والنّكران {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17].
ولو تأمّل الإنسان لرأى أنّه -وهو في حالة الكرب والبلاء- يتقلّب في نِعمٍ عظيمةٍ تستوجب منه الشّكر، فلقد جاء رجلٌ إلى يونس بن عبيدٍ، فشكا إليه ضيقًا مِن حاله ومعاشه، فقال له يونس: أيسرّك ببصرك هذا الّذي تبصر به مائة ألفٍ؟ قال: لا، فقال: فسمعك الّذي تسمع به؟ فقال: لا، قال: فلسانك الّذي تنطق به؟ قال: لا، قال: ففؤادك الّذي تعقل به؟ قال: لا، قال: فيداك؟ قال: لا، قال فرِجلاك؟ قال: لا، فأقبل عليه يونس وقال: أرى لك مئين ألوفًا وأنت تشكو الحاجة.
خاتمةٌ:
إنّ فضيلة الشّكر مِن أعظم الفضائل، فمَن رُزقها كان ذا حظٍّ عظيمٍ {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].
ولكن لا يستطيع العبد أن يحافظ عليها إلّا إذا أعانه ربّه بمعيّته، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ أَخَذَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: (يَا مُعَاذُ، وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ)، فَقَالَ: (أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ).
فمَن شكر نال الجزاء الأوفى مِن الله {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
وكما أنّ الشكر سبيلٌ لزيادة النّعم، فهو سببٌ لدفع البلايا والنّقم {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النّساء: 147].
ولقد كان سببًا لنجاة أل لوطٍ {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} [القمر: 34-35].
والشّكر يقتضي مِن العبد اعترافه بالمنعم، وحبّه له، وخضوعه بين يديه، وتحدّثه بنعم ربّه عليه، وعدم استعمالها فيما يغضبه، وسؤال الله أن يجعله مِن الشّاكرين، اقتداءً برسول الله ومصطفاه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ كَانَ يَدْعُو: (رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا، لَكَ ذَكَّارًا).
فلا يليق بالعبيد كفران النِّعم، ونكران المعروف، ومقابلة الإحسان بالإساءة، بل لا يفعل هذا إلا مَن ساء فهمه للنّعمة، ولم يقدّر المنعِم، وعندئذ يستحقّ العقاب بالمثل، والقصاص العادل في الدّنيا والآخرة {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53].
فلنحسنْ جوار نِعم الله عندنا، ولنحذرْ إنذار الله بالعذاب الشّديد، ومحق النّعم، وذهاب الخير والبركة، لمَن جحد وكفر.