بسم الله الرحمن الرحيم
سلسلة خطب ( الإيمان والحياة)
الخطبة(1) - الإيمان مفتاح شخصية الأمة -
مقدمة:
في زمن طغت فيه المادة ، واستعلت الشهوة، وكثرت الشبهة، وترسبت الأنانية في قلوب كثير من الناس فأصبحوا يجرون وراء المنفعة لاهثين، حتى إن كثيرًا منهم ليرون الحق فيما ينفعهم ويتفق مع أهوائهم، لا فيما يطابق الواقع أو تقوم الدلائل والبراهين على صحَّته. (ولَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون ) (المؤمنون 71)
ومع التقدم الحضاري الكبير للغرب الذي أدهشنا، في الوقت الذي تنكبنا فيه عن التقدم منشغلين بمنجزات غيرنا
ومع هذا البحر الهادر من الغزو الفكري الذي اجتاح العقول والقلوب فتنكبت عن صراط الله الذي ارتضاه لعباده، حتى صار البعض يظن أن الدين مخدِّرٌ للعقول معوِّقٌ عن التقدم فصار ينعق هنا وهناك بفصل الدين عن الدولة.
ومع هذا البلاء العظيم الذي حلَّ بأمتنا من قتل وتشريد وتعذيب واعتقال وتدمير ومحاربة لدين الله حتى خيَّم اليأس على قلوب الكثير من أبناء هذا الدين .
في ظلِّ هذه الظروف التي تعصف بنا كان لابد من تجديد الإيمان وبيان أثره على الحياة؛ الإيمان الذي تطمئن به القلوب، وتنشرح به الصدور، وتسكن به النفوس، وتأنس بالله، وتأوي إلى ركنه؛ فتستمد قوتها من القوي، وعظمتها من العظيم، وعزتها من العزيز، ونصرها من النصير
لهذا كانت هذه السلسة المباركة ( الإيمان والحياة ) التي نسأل الله أن ينفع بها عباده، ويزيدنا بها إيماناً ومنه قرباً.
عناصر الخطبة:
1- المؤمن يربح الحياتين معاً.
2- الإيمان الذي نعنيه.
3- مفتاح الشخصية الإسلامية.
4- نحن قومٌ مؤمنون.
5- مفهوم الإيمان.
6- وجود الله تعالى: أ- رب العالمين.
ب- وما رب العالمين؟
ج- الإنسان بحاجة إلى الله وقت الشدة كما في وقت الرخاء.
7- إنما الله إله واحد:
أ- لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.
ب - واحدٌ في ربوبيته.
ج - واحدٌ في ألوهيته.
د - لا إله إلا الله: إعلان ثورة.
هـ - لا إله إلا الله: تحرير للإنسان
و - لا إله إلا الله: منهجٌ جديد
ز- لا إله إلا الله: مجتمعٌ جديد
ح- الطغاة والجبابرة يحاربون كلمة التوحيد
ط- الإيمان بالله وأثره في قوة المسلم
ي- أهل الشام يا أحفاد جعفر.
8- كمال الله تعالى:
أ- لا يخفى عليه شيء.
ب- فعَّالٌ لما يريد
ج- لا يعجزه شيء
د- الحكيم
هـ- الرحيم
و- الإله في الإسلام
ز- الكون يسبح بحمده ويسجد له
1- المؤمن يربح الحياتين معاً:
إن الذي يؤمن بالله والدار الآخرة لا يخاطر بدنياه الفانية ليربح آخرته الباقية … كلا، إنه بإيمانه يربح الحياتين معاً، ويفوز بالحسنيين في الدنيا والآخرة جميعاً. وصدق الله العظيم: (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة) (النساء:134)
(للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة، ولدار الآخرة خير) (النحل: 30).
2- الإيمان الذي نعنيه:
ونحن حين نتحدث عن الإيمان وثمراته وآثاره في النفس والحياة إنما نعني الإيمانَ القويَّ الدافقَ، الإيمان حين يبلغُ مداه، ويشرقُ على القلوب سناه، ويخط في أعماق النفوس مجراه، لا نتحدث عن الإيمان الضعيف المزعزع، الإيمان المخدر النائم، إنما نتحدث عن الإيمان الحي اليقظ. ولا يضيرنا أن أصحاب هذا الإيمان قليلون.
إن عقيدة الإسلام عقيدة تتسع للروح والمادة، والحق والقوة، والدين والعلم، والدنيا والآخرة، إنها عقيدة التوحيد التي تغرس في النفس الكرامة والحرية، وتجعل الخضوع لغير الله كفراً وفسقاً وظلماً، وتأبى على الناس أن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله.
3- مفتاح الشخصية الإسلامية:
إن لكل قُفْلٍ محكمٍ أصيلٍ مفتاحاً معيناً، مهما تحاول فتحه بغيره كانت محاولاتك عبثاً لا فائدة منه، ولا طائل تحته. إلا إضاعة الوقت والجهد في تجارب فاشلة.
ومفتاح الشخصية الإسلامية والعربية على وجه خاص هو الدين، هو الإيمان، هو عقيدة الإسلام.
ومهما نحاول أن نذكي هذه الشخصية، وأن نفجر طاقاتها المكنونة بغير مفتاحها الأصيل -وهو الدين والإيمان- فإننا نحاول عبثاً، كمن يبنى على الماء أو يكتب في الهواء.
بعقيدة الإسلام انطلق العرب من جزيرتهم، يخرجون العالم من الظلمات إلى النور، ويؤدبون بسيوفهم الأكاسرة والقياصرة، وكل من صعَّر خده من الجبابرة، وينقلون الناس من عبادة الخلق إلى عبادة الخالق، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان والظُّلَّامِ إلى عدل الإسلام.
وبعقيدة الإسلام انتصرت أمتنا العربية على أوروبا، وقد جاءت بقضها وقضيضها في تسع حملات صليبية، تريد أن تلتهم الأخضر واليابس في هذا الشرق المسلم.
وبعقيدة الإسلام انتصرت على غزو التتار الذين زحفوا على هذا الشرق كالريح العقيم (ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم) (الذاريات: 42) وكادوا يدمرون الحضارة الإنسانية كلها، لولا أن قيَّض الله لهم من مسلمي مصر والشام من ردهم على أعقابهم وهزموهم بإذن الله في "عين جالوت". وكان مفتاح النصر صيحة أطلقها القائد المملوكي "قطز" فهزت المشاعر، واستثارت العزائم: وأيقظت الهمم، وهبت بها على المقاتلين نسمات الجنة. تلك هي الصيحة التاريخية "واإسلاماه".
وأمتنا العربية اليوم تحارب عدواً شريراً يجثم على صدرها، ويحتل قلب ديارها، ويهدد وجودها وكيانها ولن نجد -في حربنا مع هذا العدو- سلاحاً أمضى ولا أبقى من الإيمان.
إنه لابد من العتاد الحربي والقوة المادية التي أمرنا الله بإعدادها، لنرعب بها عدو الله وعدونا، لكن السلاح لا يعمل إلا في يَدَي بطل، والبطل لا يصنعه إلا الإيمان.
4- نحن قومٌ مؤمنون:
"نحن قوم مؤمنون" وهذا الإيمان هو أساس شخصيتنا، وسر قوتنا، ورافع رايتنا، هو سر مجدنا في الماضي، وباعث انتفاضتنا في الحاضر، ومناط آمالنا في المستقبل.
"نحن قوم مؤمنون" وهذه قضية بديهية ، يجب أن يلتقي على حمايتها وتثبيتها وإشاعتها قلم الكاتب، ولسان الخطيب، وفكر الفيلسوف، ووجدان الشاعر، وتقنين المشرِّع، وسلطان الحاكم، وقوة الجيش، ورقابة الشعب.
يجب أن يرعاها الأب في البيت، والمعلم في المدرسة، والأستاذ في المحاضرة، والأديب في القصة، والصحفي في الخبر، والمؤلف في الكتاب، وكل ذي فن في فنه.
5- مفهوم الإيمان:
الإيمان: ليس مجرد إعلان المرء بلسانه أنه مؤمن، فما أكثر المنافقين الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) (البقرة: 8، 9).
وليس هو مجرد قيام الإنسان بأعمال وشعائر اعتيد أن يقوم بها المؤمنون، فما أكثر الدجالين الذين يتظاهرون بالصالحات، وأعمال الخير، وشعائر التعبد، وقلوبهم خراب من الخير والصلاح والإخلاص لله: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً) (النساء:142).
وليس هو مجرد معرفة ذهنية بحقائق الإيمان، فكم من قوم عرفوا حقائق الإيمان، ولم يؤمنوا: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً) (النمل: 14) وحال الكبر أو الحسد أو حب الدنيا بينهم وبين الإيمان بما علموه من بعد ما تبين لهم الحق: (وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) (البقرة:146).
الإيمان في حقيقته:عمل نفسي يبلغ أغوار النفس، ويحيط بجوانبها كلها من إدراك وإرادة ووجدان.
فلا بد من إدراك ذهني تنكشف به حقائق الوجود، وهذا الانكشاف لا يتم إلا عن طريق الوحي الإلهي المعصوم.
ولابد أن يبلغ هذا الإدراك العقلي حد اليقين الجازم، الذي لا يزلزله شك ولا شبهة: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا) (الحجرات: 15).
ولابد أن يصحب هذه المعرفة الجازمة إذعان قلبي، وانقياد إرادي، يتمثل في الخضوع والطاعة لحكم من آمن به مع الرضا والتسليم: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) (النساء: 65)
(إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) (النور:51)
(وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (الأحزاب: 36).
ولابد أن يتبع تلك المعرفة، وهذا الإذعان حرارة وجدانية قلبية، تبعث على العمل بمقتضيات العقيدة، والالتزام بمبادئها الخلقية والسلوكية والجهاد في سبيلها بالمال والنفس، ولهذا نجد القرآن الكريم يصف المؤمنين فيقول: (إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقاً) (الأنفال: 2 - 4).
إذاً الإيمان: هو قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان.
- القرآن يعرض صورة المؤمنين:
والقرآن الكريم يعرض دائماً الإيمان في أخلاق حية، وأعمال ناصعة، يتميز بها المؤمنون، من الكفرة والمنافقين (قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكاة فاعلون * والذين هم لفروجهم حافظون...) الآيات (المؤمنون: 1 - 5).
وقال تعالى في وصف المؤمنين الصادقين: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) (الحجرات: 15).
هذه العناصر والمقومات هي التي تكون "الإيمان الحق"وإن شئت قلت "العقيدة الحقة" وإذا فقد بعض هذه العناصر فإن ما بقى منها لا يستحق أن يسمى "إيماناً" أو "عقيدة".
يمكن أن تسمى "فكرة" أو "نظرية" أو "رأياً"
- الفرق بين الرأي والعقيدة:
"فرق كبير بين أن ترى الرأي وأن تعتقده، إذا رأيت الرأي فقد أدخلته في دائرة معلوماتك، وإذا اعتقدته جرى في دمك، وسرى في مخ عظامك، وتغلغل في أعماق قلبك.
ذو الرأي فاتر أو بارد، إن تحقق ما رأى ابتسم ابتسامة هادئة رزينة، وإن لم يتحقق ما رأى فلا بأس، فقد احترز من قبل بأن رأيه صواب يحتمل الخطأ ورأى غيره خطأ يحتمل الصواب، وذو العقيدة حار متحمس، لا يهدأ إلا إذا حقق عقيدته.
ذو الرأي سهلٌ أن يتحول ويتحرر، أما ذو العقيدة فخيرُ مظهرٍ له ما حصل مع رسول الله rحين عُرِضَ عليه الملك والمال والنساء على أن يترك دينه وعقيدته فأبى واختار دين الله.
6- وجود الله تعالى:
لقد قامت الأدلة على أن وراء هذا الكون قوة عليا تحكمه وتديره وتشرف عليه، سماها أحدهم «العلة الأولى» وسماها غيره «العقل الأول» وسماها ثالث «المحرك الأول» وسماها القرآن العربي المبين وكتب السماء بهذا الاسم الجامع لصفات الجمال والجلال «الله».
هذا الإله العظيم، ليس في استطاعة العقل البشرى إدراك كنهه، ولا معرفة حقيقته، كيف وقد عجز هذا العقل عن معرفة كنه ذاته وكنه النفس وحقيقة الحياة وكثير من حقائق الكون المادية ؟ فكيف يطمع في معرفة ذات الله العلي الكبير؟!! (ذلكم الله ربكم، لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل * لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) (الأنعام: 102، 103).
أ- رب العالمين:
هذا الإله ليس إله فصيلة محدودة، ولا إله شعب خاص، ولا إله إقليم معين، وإنما هو :
(رب العالمين) الفاتحة: 2
(رب السموات والأرض) الكهف: 14
(ر ب المشرق والمغرب) ا لشعراء: 28
(قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء) الأنعام : 164.
ب- وما رب العالمين؟
حوار بين موسى وفرعون يبين لنا شمول ربوبيته سبحانه وتعالى:
(قال فرعون وما رب العالمين * قال: رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) (الشعراء: 23 -28).
الإنسان بفطرته يدرك أن له رباً وإلهاً قوياً عظيماً يكلؤه ويرعاه. (فأقم وجهك للدين حنيفاً، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الروم: 30).
ج- الإنسان بحاجة إلى الله وقت الشدة كما في وقت الرخاء:
وإذا اختفت هذه الفطرة في ساعات الرخاء واللهو فإنها تعود إلى الظهور عند الشدة والبأساء، (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيـبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين) (يونس: 22).
وتبدو هذه الفطرة حين يفاجأ الإنسان بالسؤال عن مصدر هذا الكون ومدبره فلا يملك بفطرته إلا أن ينطق معلنا «الله»: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله) (العنكبوت: 61)
(قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون * فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون) (يونس: 31، 32).
7- إنما الله إله واحد:
وهو تعالى إله واحد ليس له شريك، ولا له مثيل في ذاته أو صفاته أو أفعاله (قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد) (سورة الإخلاص).
(وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) (البقرة: 163).
أ- لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا:
وكل ما في الكون من إبداع ونظام يدل على أن مبدعه ومدبره واحد، ولو كان وراء هذا الكون أكثر من عقل يدبر، وأكثر من يد تنظم، لاختل نظامه، واضطربت سننه، وصدق الله: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون) (الأنبياء: 22)،
(ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون) (المؤمنون: 91).
ب - واحدٌ في ربوبيته:
هو تعالى واحد في ربوبيته، فهو رب السموات والأرض ومن فيهن وما فيهن، خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، ولا يستطيع أحد من خلقه أن يدعي أنه الخالق أو الرازق أو المدبر لذرة في السماء أو في الأرض (وما ينبغي لهم وما يستطيعون) (الشعراء: 211).
جـ - واحدٌ في ألوهيته:
وهو تعالى واحد في ألوهيته، فلا يستحق العبادة إلا هو، ولا يجوز التوجه بخوف أو رجاء إلا إليه. فلا خشية إلا منه، ولا ذل إلا إليه، ولا طمع إلا في رحمته، ولا اعتماد إلا عليه ولا انقياد إلا لحكمه. والبشر جميعاً -سواء أكانوا أنبياء وصديقين أم ملوكاً وسلاطين- عباد الله، لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فمن ألَّه واحداً منهم، أو خشع له وحنى رأسه، فقد جاوز به قدره؛ ونزل بقدر نفسه.
كلمة التوحيد:
ومن هنا كان عنوان العقيدة الإسلامية يتمثل في هذه الكلمة العظيمة التي عرفت لدى المسلمين بكلمة «التوحيد» وكلمة «الإخلاص» وكلمة «التقوى» وهي: «لا إله إلا الله».
د - لا إله إلا الله: إعلان ثورة
كانت "لا إله إلا الله" إعلان ثورة على جبابرة الأرض وطواغيت الجاهلية، ثورة على كل الأصنام والآلهة المزعومة من دون الله: سواء أكانت شجراً أم حجراً أم بشراً.
هـ - لا إله إلا الله: تحرير للإنسان
وكانت «لا إله إلا الله» نداءً عالمياً لتحرير الإنسان من عبودية الإنسان والطبيعة وكل من خلق الله وما خلق الله.
و - لا إله إلا الله: منهجٌ جديد
وكانت «لا إله إلا الله» عنوان منهج جديد، ليس من صنع حاكم ولا فيلسوف، إنه منهج الله الذي لا تعنو الوجوه إلا له، ولا تنقاد القلوب إلا لحكمه ولا تخضع إلا لسلطانه.
ز - لا إله إلا الله: مجتمعٌ جديد
وكانت «لا إله إلا الله» إيذاناً بمولد مجتمع جديد، يغاير مجتمعات الجاهلية، مجتمع متميز بعقيدته، متميز بنظامه، لا عنصرية فيه ولا إقليمية ولا طبقية، لأنه ينتمي إلى الله وحده، ولا يعرف الولاء إلا له سبحانه.
حـ - الطغاة والجبابرة يحاربون كلمة التوحيد:
ولقد أدرك زعماء الجاهلية – القديمة والحديثة - وجبابرتها ما تنطوي عليه دعوة «لا إله إلا الله» من تقويض عروشهم والقضاء على جبروتهم وطغيانهم وإعانة المستضعفين عليهم، فلم يألوا جهداً في حربها، وقعدوا بكل صراط يوعدون ويصدون عن سبيل الله من آمن ويبغونها عوجاً.
لقد كانت مصيبة البشرية الكبرى أن أناساً منهم جعلوا من أنفسهم أو جعل منهم قوم آخرون آلهة في الأرض أو أنصاف آلهة، لهم يخضع الناس ويخشعون، ولهم يركعون ويسجدون، ولهم ينقادون ويسلمون.
لكن عقيدة التوحيد سمت بأنفس المؤمنين فلم يعد عندهم بشر إلهاً، ولا نصف إله، أو ثلث إله، أو ابن إله، أو محلا حلَّ فيه الإله!
ولم يعد بشر يسجد لبشر أو ينحني لبشر أو يقبل الأرض بين يدي بشر، ولا كرامة لمن يركع أو يسجد لمخلوق مثله أو يتخذه حَكَمَاً من دون الله.
ط - الإيمان بالله وأثره في قوة المسلم:
قال أبو موسى الأشعري : انتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه، وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره، والقسيسون جلوس سماطين، وقد قال له عمرو وعمارة -وهما مندوبا مشركي قريش بمكة إلى النجاشي- إنهم لا يسجدون لك، فلما انتهينا بَدَرَنا مَنْ عِنْدَهُ من القسيسين والرهبان: اسجدوا للملك، فقال جعفر بن أبي طالب: لا نسجد إلا لله! ( مصنف ابن أبي شيبة)
ي - أهل الشام يا أحفاد جعفر:
فرغم أنهم مضطهدون ومهاجرون، وغرباء لاجئون، وهم في أرض هذا الملك وفي حوزته، أبَوا أن يفرطوا في توحيدهم لحظة واحدة فيسجدوا لغير الله، وأعلنها جعفر كلمة أصبحت شعاراً لكل مسلم "لا نسجد إلا لله".
فاستمروا يا أهل الشام في مقارعة الطغيان، لقد أعلنتموها مدويةً " لا نركع إلا لله "وأعلنها من قبلكم جعفر " لا نسجد إلا لله".
8- كمال الله تعالى:
لابد مع الإيمان بوجود الله ووحدانيته من الإيمان بأنه تعالى متصف بكل كمال يليق بذاته الكريمة، منـزه عن كل نقص: (لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد) (الإخلاص: 3، 4)
(ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير) (الشورى: 11).
أ - لا يخفى عليه شيء:
فهو سبحانه العليم الذي لا يخفى عليه شيء: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا ورطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) (الأنعام: 59).
ب - فعَّالٌ لما يريد:
وهو العزيز الفعال لما يريد، الذي لا يغلبه شيء، ولا يقهر إرادته شيء (قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنـزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) (آل عمران: 26).
جـ - لا يعجزه شيء:
وهو القدير الذي لا يعجزه شيء، يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، ويحيي العظام وهي رميم، ويعيد الخلق كما بدأهم أول مرة وهو أهون عليه: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير) (الملك: 1).
د - الحكيم:
وهو الحكيم الذي لا يخلق شيئاً عبثاً، ولا يترك شيئاً سدىً، ولا يفعل فعلاً، أو يشرع شرعاً إلا لحِكَمٍ، عرفها من عرفها وجهلها من جهلها. وهذا ما شهد به الملائكة الأطهار : (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم) (البقرة: 32).
وما شهد به أنبياء الله وأولياؤه، وأولوا الألباب من عباده: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك) (آل عمران: 191).
هـ - الرحيم:
وهو الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه، ووسعت رحمته كل شيء، كما وسع علمه كل شيء، وقد حكى القرآن دعاء الملائكة (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً) (غافر: 7)
وقال الله: (عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء) (الأعراف : 156) وقد بدأ سور القرآن بـ «بسم الله الرحمن الرحيم» للدلالة على سعة رحمته وتقوية الرجاء في قلوب عباده، وإن تورطوا في الذنوب والآثام: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً، إنه هو الغفور الرحيم) (الزمر: 53).
و - الإله في الإسلام:
الإله في الإسلام ليس بمعزل عن هذا الكون وما فيه ومن فيه كإله أرسطو الذي سماه «المحرك الأول» أو «العلة الأولى» ووصفه بصفات كلها «سلبية» لا فاعلية لها ولا تأثير، ولا تصريف ولا تدبير، فإن هذا الإله -كما صورته الفلسفة الأرسطية- لا يعلم إلا ذاته، ولا يدرى شيئاً عما يدور في هذا الكون العريض.
وإله أرسطو لا صلة له بهذا العالم، ولا عناية له به، ولا يدبر أمراً فيه، لأنه لا يعلم ما يجري فيه مما يلج في الأرض أو يخرج منها، وما ينـزل من السماء أو يعرج فيها. كل ما يقوله أرسطو ومن تبعه عن الإله أنه ليس بجوهر ولا عرض وليس له بداية ولا نهاية، وليس مركباً ولا جزءاً من مركب وليس داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه، وهذه السلبيات لا تربط الناس بربهم رباطاً محكماً يقوم على المراقبة والتقوى والثقة والتوكل والخشية والمحبة.
هذا الإله المعزول عن الكون -الذي عرفه الفكر اليوناني، وعنه انتقل إلى الفكر الغربي الحديث- لا يعرفه الإسلام، وإنما يعرف إلهاً (خلق الأرض والسموات العلا * الرحمن على العرش استوى * له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى * الله لا إله إلا هو، له الأسماء الحسنى) (طه: 4 - 8)
(الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم) (البقرة: 255).
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).صححه الألباني وأصله في صحيح مسلم /179
الإله في الإسلام هو خالق كل شيء، ورازق كل حي، ومدبر كل أمر، أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، ووسع كل شيء رحمة، خلق فسوى، وقدَّر فهدى، يسمع ويرى، ويعلم السر والنجوى (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة) (المجادلة: 7).
له الخلق والأمر، وبيده ملكوت كل شيء، يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويرزق من يشاء بغير حساب.
له ما في السموات وما في الأرض، لا يملك أحد فيهما مثقال ذرة، وما لأحد فيهما من شرك، الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، والأرض وما عليها ممهدة بقدرته، مسيرة بمشيئته، وفق حكمته.
هو الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء و يجعله كسفاً فترى الودق يخرج من خلاله، وهو الذي سخر الفلك لتجري في البحر بأمره، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وهو الذي جعل الأرض ذلولاً ليمشى الناس في مناكبها ويأكلوا من رزقه.
كل من في السموات والأرض خلقه وعباده، الملائكة في السموات، والجن والإنس في الأرض، كلهم في قبضة قدرته، وطوع مشيئته: الملائكة جنده المطيعون بفطرتهم، (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) (الأنبياء: 27). (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) (التحريم: 6).
والجن والأنس -وإن أعطاهم الحرية والاختيار- لا يخرجون عن مشيئته وسلطانه، لا يملكون لأنفسهم موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، ومن تمرد منهم على العبودية له اليوم فسوف يعترف بها غداً (إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً * لقد أحصاهم وعدَّهم عداً * وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً) (مريم: 93 - 95).
هو -تعالى شأنه- مع عباده جميعاً بعلمه وإحاطته: (وهو معكم أين ما كنتم) (الحديد:4) وهو مع المؤمنين خاصة بتأييده ومعونته: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) (النحل: 128)
(وأن الله مع المؤمنين) (الأنفال:19).
ز - الكون يسبح بحمده ويسجد له:
الكون كله عاليه ودانيه، صامته وناطقه، أحياؤه وجماداته كله خاضع لأمر الله، منقاد لقانون الله، شاهد بوحدانيته وعظمته، ناطق بآيات علمه وحكمته، دائم التسبيح بحمده،(تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً) (الإسراء: 44).
إن تسبيح الكون لله، وسجوده لله، حقيقة كبيرة، عميت عنها أعين، وصمت عنها آذان، ولكنها تجلت للذين ينظرون بأعين بصائرهم، ويسمعون بآذان قلوبهم، فإذا هم يرون الوجود كله محراباً، والعوالم كلها ساجدة خاشعة، ترتل آيات التسبيح والثناء على العزيز الحكيم، الرحمن الرحيم
(ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال) (الرعد:15)
(ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس) (الحج: 18)
(سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم * له ملك السموات والأرض يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير * هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم) (الحديد: 1 - 3).
إنه الله الذي لا تحيط بوصفه الكلمات، بل تجف البحار لو كانت مداداً، وتنفد الأشجار لو كانت أقلاماً، فلا تحيط بالعليم الخبير
(وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) لقمان (27(
)قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْر مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْر قَبْل أَنْ تَنْفَد كَلِمَات رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا( الكهف 109)
بهذه العقيدة في الله يلتهب الحماس في قلب المرء ليستنهض همته في نشر الدين والفضيلة والأخلاق، ليسود العدل والقسط بين الناس، وبهذه العقيدة يستمد العبد قوته من الله القوي، وعزته من ربه العزيز.