الاثنين 7 جمادى الآخر 1446 هـ الموافق 9 ديسمبر 2024 م
إصلاح النُّفوس بحضور مجالس العِلم والدُّروس
الأربعاء 18 محرّم 1446 هـ الموافق 24 يوليو 2024 م
عدد الزيارات : 592
إصلاح النُّفوس بحضور مجالس العِلم والدُّروس
عناصر المادة
1- صِفات النُّفوس
2- وسائل التَّزكية
مقدمة:
لقد أمرنا دِيننا الحنيف بتوحيد الله وإخلاص العبادة له، واعتقاد أنّ واجب الوجود متّصفٌ بكلّ كمالٍ، منزّهٌ عن كلّ نقصٍ ومثالٍ، أبدع الكائنات بقدرته، ودبّرها بحكمته {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [يونس: 3].
هذا هو الاعتقاد الحقّ الّذي يُخرج النّفس مِن ظلمات الجهل إلى نور العلم، ويرفعها مِن وهدة الشّرك إلى عزّة الإيمان، ويطهّرها مِن دنس الأوهام، فلا تخضع إلّا لمَن له غاية العظمة ونهاية الإنعام، ولقد خلق الله النّفس البشريّة، وجعلها مهيّأةً للفجور والتّقوى، قابلةً للدّنس والطّهر، ثمّ علّق فلاح الإنسان على تطهير نفسه مِن أدرانها، وجعل شقاءه في إهمالها {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشّمس: 7-10].
وإنّ تهذيب النّفس وتزكيتها، وتحلّيها بالخُلق الحسن، عنوان كمال الإيمان، وثمرة البرّ والإحسان، وأساس التّعامل بين النّاس، ومقياس الحياة في الأمم، ومصدر النّهضة في الشّعوب، فلا سعادة لمجتمعٍ إلّا بتزكية نفوس أبنائه، ولا هناءة في عيشهم إلّا بالأخلاق الفاضلة، ورحم الله القائل:
وإنّما الأمم الأخلاق ما بقيت    فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فالأخلاق الفاضلة الّتي يزكّي بها المسلم نفسه، هي المنارات الزّاهرة الّتي تضيء على الدّنيا، وتشعّ على الوجود، لتوصل النّور والضّياء إلى كلّ مَن يهتدي إلى الحقيقة، ويَنشد الأمن والسّلام، وإنّ الله لم يرسل الرّسل المكرّمين إلّا ليكونوا هداة الأمم إلى مكارم الأخلاق، ومِن هنا وجب على كلّ مسلمٍ أن يزكّي نفسه، ويطهّرها ممّا يشينها، وذلك بأن يسلك السّبل الّتي توصله لذلك، ويتّبع الوسائل الّتي تكون له عونًا وسندًا في الوصول إلى هذا الهدف العظيم، مِن حضور مجالس العلم، وحِلَق الذّكر والقرآن، وصحبة الصّالحين الأخيار، الّذين يتأسّى بهم، ويتخلّق بأخلاقهم، ويسلك نهجهم.
1- صِفات النُّفوس
لقد خلق الله النّفس البشريّة، وجعلها منبعًا للأفكار والخواطر، فقد ترقى بصاحبها إلى أعلى الدّرجات، وقد تنزل به إلى أسفل الدّركات، فإن غلب شرّها على خيرها كانت أمّارةً بالسّوء، تأمر صاحبها بالمنكرات، وتميل به إلى الشّهوات {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53].
ولو تأمّلنا كلمة {أَمَّارَةٌ} لعلمنا أنّها تأمر صاحبها بالسّوء مرّةً بعد مرّةٍ، حتّى يعجز عن مقاومتها، ولكنه إذا كان قويًّا في مجاهدتها، حوّلها إلى نفسٍ تذكّره بالله إذا نسي، وتأمره بالإصلاح إذا أفسد {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2].
فتلومه على الوقوع في المخالفات، وعلى التّقصير في الواجبات، وهكذا يرتقي المؤمن شيئًا فشيئًا حتّى تتّصف نفسه بالاطمئنان إلى ما يرضي الرّحمن، فتتلذّذ بالطّاعات، وتفرّ مِن المنكرات {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27-28].
ولقد قسّم النّبيّ صلى  النّاس بحسب تهيئة نفوسهم وإقبالها أو إعراضها، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ، لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ). صحيح البخاريّ: 79
ولقد أمر بتطهير النّفوس مِن الشّرك والدّنس، وحثّ المسلم على تزكية نفسه بالأخلاق الفاضلة، وترفّعها عن الأخلاق الدّنيئة، حتّى يُسرّ بعملها يوم العرض الأكبر {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا}  [آل عمران: 30].
وإنّ مَن ينظر في أحوال الأمّة اليوم، ثمّ يتدبّر كلام ربّه، يتبيّن له بوضوح: أنّ رفع البلاء والكربات، مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بصلاح النّفوس وتزكيتها {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53]
فيا ليت النّاس يعلمون، ثمّ يغيرون، حتّى يغيّر الله حالنا، ويكشف كربنا.
2- وسائل التَّزكية
 إنّ مَن يضع نُصْب عينيه هدفًا، يسلك الطّرق الصّحيحة الّتي ترشده لبلوغ غايته، ويتّبع الوسائل الّتي تعينه على تحقيق مراده، فمَن أراد أن تزكو نفسه وتطهر، صحب العلماء العارفين، فكانوا قدوةً له في حالهم قبل مقالهم، فلا يخالفون ما يأمرونه به، كما بيّن ذلك ربّنا في كتابه على لسان شعيبٍ: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88].
ومِن ثَمَّ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير قدوةٍ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
فقد كان يزكّي نفوس المؤمنين ويعلّمها {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2].
وإنّ ذِكر الله والالتجاء إليه، وتلاوة كتابه، وتدبّر آياته؛ لأكبر معينٍ على تزكية النّفس وصلاحها، كما أنّ الصحبة لها أثرٌ كبيرٌ في صلاح الإنسان وفساده، وذلك لأنّ الطّباع تتأثّر ببعضها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ). مسند أحمد: 8417
ولقد أمر الله رسوله أن يحبس نفسه مع تلك الثّلّة مِن عباد الله المؤمنين {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28].
وأمر المسلم أن يكون جلساؤه مِن الصّادقين الصّالحين، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ والسَّوء، كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحذيَك، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً). صحيح البخاريّ: 5214
فالجليس الصّالح يبصّرك بعيوبك، ويدلّك على أوجه الضّعف عندك، فهو كالمرآة لك، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (المُؤمن مرآةُ أخِيه). الأدب المفرد: 239
فليحرص المؤمن على صحبة العلماء العاملين، والنّبهاء الصّالحين، فإنها مِن خير الوسائل الّتي تغرس الفضائل في النّفوس، وتدفعها إلى تحمّل الشّدائد والمكاره، في سبيل الغايات النّبيلة، والمقاصد الجليلة، وتذكّرها بالقدوات، لتسمو نفوسهم إلى أعلى الدّرجات، وأشرف المقامات. 
خاتمةٌ:
ما أشدّ حاجة المسلم إلى تطهير نفسه وإصلاحها بالعلم والعمل الصّالح، وأداء الحقوق وفعل الواجبات -لا سيّما في زمن كثرة الفتن الّتي تجعل الحليم حيران- حتّى تزكو نفسه، وتترفّع عن نزعات الشّرّ والإثم، وتنمو فطرة الخير فيه، حتّى يبلغ بنفسه درجة الإحسان، وتتنوّر بنور العلم والقرآن، وعندئذٍ لا تطمئنّ إلّا بذكر الرّحمن، ولا تسعد إلّا بالحديث عن ربّنا المنّان، حتّى تلقاه فتجد ثمرة ما قدّمت مِن عملٍ {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه: 76].
ولقد كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يسأل ربّه أن يزكّي له نفسه، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: لَا أَقُولُ لَكُمْ إِلَّا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: كَانَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا). صحيح مسلمٍ: 2722
فلا بدّ للمسلم في سَيرهِ إلى الله مِن صحبة الأخيار الأبرار، الّذين يقتدي بهم، ويحذو حذوهم، حتّى تزكو نفسه كما زكت نفوسهم، وتؤتي الثّمار اليانعة، مِن تذوّق حلاوة الطّاعات، وتكفير الذّنوب والسّيّئات، ومضاعفة الحسنات، ورفع الدّرجات، ومِن ثَمّ يعكس هذا النّور في قلبه محبّة الخير للآخرين، فلا حسد ولا بغضاء، ولا حقد ولا شحناء، ولا كِبر ولا خيلاء، وإذا ما حصل هذا مِن أفراد المجتمع، ساد فيه التّكافل والتّراحم بينهم، وأصبح سالمًا مِن الفساد والجرائم، متمتّعًا بالأمن والاستقرار، قريبًا مِن نصر الله لعباده الّذين زكت نفوسهم، وطهرت قلوبهم، ونصروا دينهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمّد: 7].
1 - صحيح البخاريّ: 79
2 - مسند أحمد: 8417
3 - صحيح البخاريّ: 5214
4 - الأدب المفرد: 239
5 - صحيح مسلمٍ: 2722
دور الخطباء في سوريا ؟!
دور فعال ومؤثر (صوتأ 120) 81%
غير فعال (صوتأ 27) 18%
لا أدري (صوتأ 2) 1%
تاريخ البداية : 26 ديسمبر 2013 م عدد الأصوات الكلي : 149