1- صبرٌ ومصابرةٌ
2- ثمرةٌ يانعةٌ
مقدمة:
حياة نبيّنا صلى الله عليه وسلم مزيجٌ مِن جهادٍ وتعليمٍ وطلبٍ للعلم مع جبريل، وأنواعٌ مِن التّعبّد والوقوف بين يدي الله حتّى تتورّم الأقدام، وإذا أردنا نلقي نظرةً على جهاده صلى الله عليه وسلم بالسّيف فنحن أمام غزوة بدرٍ، الّتي هي أُولى الغزوات الكبرى في الإسلام، ووقعت في السّنة الثّانية للهجرة، وانتهت بانتصار المسلمين، كانت هذه الغزوة نقطة تحوّلٍ في تاريخ المسلمين، حيث عزّزت مِن مكانتهم في جزيرة العرب.
ثمّ غزوة أحدٍ، الّتي وقعت في السّنة الثّالثة للهجرة بين المسلمين وقريش، وانتهت إلى نتائج مختلطةٍ، حيث انتصر المسلمون في البداية، ولكنّهم تعرّضوا لهجومٍ مضادٍّ مِن قريش أدّى إلى تراجعهم، هذه الغزوة كانت درسًا مهمًّا للمسلمين حول أهمّيّة الطّاعة والانضباط.
ثمّ غزوة الخندق، الّتي وقعت في السّنة الخامسة للهجرة، تجمّع فيها تحالفٌ مِن قبائل قريش وغطفان واليهود لمهاجمة المدينة المنورّة، للدّفاع عن المدينة، وفيها اقترح الصّحابي سلمان الفارسيّ رضي الله عنه حفر خندقٍ حولها، وكان له دَورٌ كبيرٌ في صدّ الهجوم، تلاها مباشرةً توجّه المسلمين إلى بني قريظة، الّذين خانوا العهد وتحالفوا مع قريشٍ، وانتهت بتسليم بني قريظة واستسلامهم للمسلمين.
ثمّ في السّنة السّادسة للهجرة، اتّفق المسلمون مع قريشٍ على صُلح الحديبية، وهو اتّفاق هدنةٍ لمدّة عشر سنواتٍ، هذا الصُّلح أتاح للمسلمين فترةً مِن الهدوء والاستقرار، سمح لهم بالتّركيز على الدّعوة وتوسيع النّفوذ {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 20].
هذه الغزوات تمهّد الطّريق لفهم السّياق الّذي حدثت فيه غزوة خيبر، وتظهر التّحوّلات الكبرى الّتي شهدتها الدّولة الإسلاميّة في تلك الفترة.
1- صبرٌ ومصابرةٌ
غزوة خيبر تُعدّ واحدةً مِن أهمّ الغزوات في تاريخ الإسلام، وقد وقعت في السّنة السّابعة للهجرة، بين المسلمين ويهود خيبر، بدأت الغزوة بعد سلسلةٍ مِن الأحداث التّاريخية المهمّة، بما في ذلك: إجلاء اليهود مِن المدينة، وغزوة الأحزاب، وصلح الحديبية، كانت خيبر معروفةً بحُصونها القويّة وزراعتها الخصبة، ممّا جعلها هدفًا استراتيجيًّا هامًّا للمسلمين، فتأمّل وكرَ مؤامراتٍ نُفي إليه اليهود مِن المدينة مرّةً بعد مرّةٍ، وتأمّل في موردٍ مِن موارد الرّزق يلوح للمسلمين على ما هم فيه مِن شدّةٍ وفقرٍ.
انطلقت القوّات الإسلامية بقيادة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في شهر محرّمٍ مِن السّنة السّابعة للهجرة، وكانت تتكوّن مِن نحو ألفٍ وأربعمئة محاربٍ، فيا له مِن جيشٍ مباركٍ! ضمّ خيرة مَن كان يمشي على وجه الأرض يومها، جيش بركةٍ وشجاعةٍ وتقوى.
بدأت المعركة بتوجّه المسلمين نحو حصون خيبر، حيث واجهوا مقاومةً شرسةً مِن اليهود، كان لكلّ حصنٍ قصّةٌ خاصّةٌ به، حيث كانت الهجمات تتطلّب تخطيطًا ودقّةً في التّنفيذ، مِن أبرز الحصون الّتي واجهها المسلمون هو حصن ناعمٍ، الّذي كان مِن أُولى الحصون الّتي تمّت مهاجمتها، استطاع المسلمون بفضل الله وبواسطة القيادة الحكيمة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم مِن فتح هذا الحِصن بعد معركةٍ شديدةٍ.
استمرّ المسلمون في فتح الحصون واحدًا تلو الآخر، وكان مِن بينها حِصن الصّعب بن معاذ، وحِصن القموص الّذي كان مِن أقوى الحصون في خيبر، في هذه المرحلة برز دَور الصّحابة الكبار، مثل عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، الّذي قاد الهجوم على حصن القموص، كان عليٌّ رضي الله عنه يعاني مِن رمدٍ في عينيه، فتفل النّبيّ صلى الله عليه وسلم ودعا له بالشّفاء، فتحسّنت حالته فورًا، تفلةٌ لم تحمل الشّفاء لِعينِ الصّحابيّ الجليل رضي الله عنه فقط، وإنّما وصل أثرها إلى قلوب القوم؛ فازدادت يقينًا وإيمانًا، وعندما واجه عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه قائد اليهود مرحبًا، نشبت بينهما معركةٌ شرسةٌ، وقال عليٌّ رضي الله عنه شعرًا يعبّر فيه عن شجاعته وبسالته:
أنا الَّذي سمَّتني أمُّي حيدره كليث غاباتٍ كريه المنظره
وردّ عليه مرحبٌ قائلًا:
قد علمتْ خيبر أنِّي مرحبُ شاكي السِّلاح بطلٌ مجرَّبُ
كان هذا التّحدّي بين عليٍّ رضي الله عنه ومرحبٍ رمزًا للقوّة والإرادة الّتي كان يتمتّع بها المسلمون، وبفضل الله تمكّن عليٌّ رضي الله عنه مِن قتل مرحبٍ، وفتح حصن القموص، ممّا مهّد الطّريق لفتح بقيّة الحصون.
بهذا الانتصار، سُجّلت غزوة خيبر في التّاريخ كواحدةٍ مِن أعظم الغزوات الّتي خاضها المسلمون بقيادة النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
2- ثمرةٌ يانعةٌ
بعد انتصار المسلمين في غزوة خيبر، بدأت عمليّة توزيع الغنائم، بناءً على الأُسس الّتي جاء بها الإسلام، كانت الغنائم تشمل الأراضي الزّراعيّة والأنعام والأسلحة والأمتعة الّتي تمّت مصادرتها مِن اليهود، قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41].
والقرآن دُستور المسلمين، يدورون في فلكه، ويحتكمون بأحكامه، تمّ تقسيم الغنائم إلى خمسة أقسامٍ: خُمسها كان يُخصَّص لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل، والباقي يُوزّع بين المسلمين المشاركين في الغزوة، كان هذا التّقسيم يعكس العدالة والتّوازن في توزيع المال {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7].
ويضمن استفادة الجميع مِن النّصر، وكذلك تمّ النّظر في أمر الأسرى مِن يهود خيبر، ومِن بين الأسرى كانت صفيّة بنت حييّ بن أخطب، وهي ابنة زعيم بني النّضير وزوجة كنانة بن الرّبيع، كانت صفيّة تُعتبر مِن النّساء النّبيلات في اليهود، وعندما سُبيت، عرض عليها النّبيّ صلى الله عليه وسلم الإسلام والزّواج منه، فوافقت، وأصبحت مِن أمّهات المؤمنين، جاء في الحديث الشّريف: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ قَرِيبًا مِنْ خَيْبَرَ بِغَلَسٍ، ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ) {فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ}، فَخَرَجُوا يَسْعَوْنَ فِي السِّكَكِ، فَقَتَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المُقَاتِلَةَ، وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ، وَكَانَ فِي السَّبْيِ صَفِيَّةُ، فَصَارَتْ إِلَى دَحْيَةَ الكَلْبِيِّ، ثُمَّ صَارَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا.
ممّا يبيّن مكانتها في دِيننا الحنيف، وكذا تظهر حكمة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، حيث تزوّج ابنة سيّد القوم وأسلمت، ممّا يترك أثرًا بالغًا في نفوس قومها، ومِن بين الأحداث الّتي تلت غزوة خيبر أيضًا: كان اكتشاف الذّهب المخبّأ مِن قبل كنانة بن الرّبيع، عندما سأله النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن مكان الذّهب أنكر معرفته بمكانه، ولكن بعدما كشف أحد اليهود مكان الذّهب، أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بمعاقبة كنانة بن الرّبيع، هذا الحدث يوضّح قيمة الأمانة والصّدق في الإسلام، وأهمّيّة مراعاة الحقوق وعدم خيانة العهود، انتصارٌ كبيرٌ في غزوة خيبر أدّى إلى تعزيز مكانة المسلمين في شبه الجزيرة العربيّة، وزيادة قوّتهم الاقتصاديّة والعسكريّة، فالأراضي الّتي تمّ فتحها أصبحت مصادر هامة للدّولة الإسلاميّة، وساهمت في تأمين احتياجات المسلمين مِن الغذاء والمال، كما أنّ هذا النّصر أدّى إلى زيادة هيبة المسلمين ونفوذهم، وجعلهم قوّةً يُحسب لها حسابٌ في المنطقة.
خاتمةٌ:
غزوة خيبر تحمل العديد مِن الدّروس والعبر الّتي يمكن أن يستفيد منها المسلمون في حياتهم اليوميّة، ومِن بين أهمّ هذه الدّروس: ما يتعلّق بقيم الشّجاعة، والأمانة، والعدل.
كانت غزوة خيبر مثالًا حيًّا على شجاعة المسلمين وبسالتهم في مواجهة أعدائهم، فهذا عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه كان نموذجًا للشّجاعة والإيمان بالله، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: يَوْمَ خَيْبَرَ: (لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ)، فَقَامُوا يَرْجُونَ لِذَلِكَ أَيُّهُمْ يُعْطَى، فَغَدَوْا وَكُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَى، فَقَالَ: (أَيْنَ عَلِيٌّ؟)، فَقِيلَ: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، فَأَمَرَ، فَدُعِيَ لَهُ، فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ، فَبَرَأَ مَكَانَهُ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ شَيْءٌ، فَقَالَ: نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ: (عَلَى رِسْلِكَ، حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ).
غزوة خيبر أيضًا تُبرز قيمة الأمانة في التّعاملات، وفي توزيع الغنائم، وضمان حقوق الجميع كان مِن السّمات البارزة في هذه الغزوة، وهذا يعكس أهمّيّة مراعاة الحقوق والواجبات والالتزام بالأمانة في كلّ جوانب الحياة.
ومِن الدّروس الهامّة في غزوة خيبر هو قيمة العدل، فبعد الانتصار تمّ توقيع اتفاقيةٍ مع يهود خيبر تسمح لهم بالبقاء في أرضهم مقابل دفع جزءٍ مِن محاصيلهم الزّراعية للمسلمين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} [المائدة: 8].
هذا وإنّ أبرز ما نستفيده مِن هذه الغزوة أن نستحضر أهمّيّة الجهاد في حياتنا، وأن نبذل في سبيله، فها هم الصّحابة بذلوا الكثير حتّى أعز الله الدِّين بتضحياتهم، ونسأل الله النّصر لإخوانٍ لنا يقارعون أحفاد يهود خيبر.