1- قلوبٌ عامرةٌ بالخشية والإيمان
2- الخوف والرَّجاء جناحان متلازمان
مقدمة:
إنّ الخشية مِن الله، والخوف مِن عقابه، شعار المؤمنين الصّادقين، وقرين الأبرار والمقرّبين، وهي بشير النّجاة والأمان الأكبر يوم يقوم النّاس لربّ العالمين، فالخوف مِن الله طريقٌ لهداية القلوب الحائرة، وسبيلٌ لسلوك النّفوس النّافرة، مَن سار في ضوئه وصل، ومَن تمسّك بحبله رشد، ومَن أخذ نفسه به فقد هُدي إلى صراطٍ مستقيمٍ، ومَن خاف مقام ربّه سلم مِن عقابه، ومَن تعاظمت ذنوبه في عينه، وبكى على تفريط نفسه، فقد فاز بعزّ الدّنيا وشرف الآخرة، عَنْ الْعَبَّاسِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، تَحَاتَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتُّ عَنِ الشَّجَرَةِ الْبَالِيَةِ وَرَقُهَا).
وإنّ الخوف مِن الله خُلق الأنبياء، ودثار الأصفياء، وشعار إمام الأتقياء، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخوف النّاس مِن الله، وأشدّهم له خشيةً، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ، قَالَ: (لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا) قَالَ: فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وُجُوهَهُمْ لَهُمْ خَنِينٌ.
وإنّ رأس الحكمة مخافة الله، وعنوان السّعادة خشية الله، وطريق النّجاة والفلاح الرّهبة مِن عذاب الله، والمؤمن الكامل الصّادق هو الّذي يخاف مقام ربّه، ويعظّم خالقه، فيُقبل على حساب نفسه، يلومها على إفراطها وتفريطها، فيقرن القول بالفعل، والعمل بالإخلاص، في الوقت الّذي لا يغيب عن ذاكرته أنّ الله واسع الرّحمة، عظيم المغفرة، وأنّه فتح باب الرّجاء على مصراعيه لكلّ قلبٍ منيبٍ، وفؤادٍ نادمٍ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزّمر: 53].
وقد ذكّر الله عباده بمغفرته وعقابه، ليكونوا راجين رحمته، خائفين مِن عذابه {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرّعد: 6].
فلولا حِلم الله ورحمته، لما هنأ أحدٌ بعيشٍ، ولولا عقابه ووعيده، لعكف النّاس على المخالفات، ولذا كان مِن الواجب أن يعيش المؤمن حياته بين الخوف والرّجاء، يخاف ربّه، ويخشى عقابه، كما يرجو رحمته وعفوه، يوقظ قلبه بالسّير إلى الله، ولا يتخلّف مع القاعدين، ويُحسن ظنّه بربّ العالمين؛ في قبول الطّاعات، والتّجاوز عن الخطيئات.
1- قلوبٌ عامرةٌ بالخشية والإيمان
الخوف مِن الله العليم العلّام، صفةٌ جليلةٌ عظيمةٌ رفيعةٌ، دعا إليها الإسلام، وحثّ عليها نبيّنا محمّدٌ صلى الله عليه وسلم، فكانت مِن أعظم أخلاق القرآن، حيث أمرنا بها ربّنا في كتابه الكريم، فقال: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 173].
وقال: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45].
وهذا هو الخوف المحمود الّذي دعا إليه القرآن، يقابله ضدّه: وهو الأمن القائم على الاغترار أو الكفران، الّذي نفّر منه القرآن وحذّر، فقال تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف: 97-98].
ولقد تكرّرت دعوة القرآن إلى استحضار الخوف مِن الله دائمًا {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205].
وإنّ هذا الخوف الّذي يمجّد شأنه القرآن، إنّما هو الخوف القائم على المراقبة لله، والخضوع لأمره، والخشية مِن عقابه، وهو فرضٌ على كلّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ، لأنّه يستلزم الرّجوع إلى الله، والاعتصام بحبله، والوقوف ببابه، وهو ليس هربًا منه أو إعراضًا عنه، بل هو قوّة إحساسٍ بعظمته وهيبته، وجلاله وحقّه، ليكون الإنسان أهلا لقبوله ومرضاته، فإذا صدق العبد في خوفه مِن الله ازداد لجوءً إليه، وتوكّلًا عليه، وتذلّلًا على أعتابه، فيبذل غاية جهده في التّحرّز مِن المنكرات، وفي القيام بالطّاعات، ومع ذلك يخاف ألّا يبلغ بجُهده وعمله مرتبة المقبولين الّذين قال الله فيهم: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البيّنة: 8].
ولقد جاء في السّنّة النّبويّة ما يؤكّد هذا المعنى، عَنْ عائشةَ زوجَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالت: سألتُ رسولَ الله عن هذه الآيَةِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}، قالت عائشةُ: أهُمُ الذينَ يَشْرَبونَ الخَمرَ ويَسرقونَ؟ قال: (لا يا بنتَ الصِّدِّيقِ، ولكِنهُم الذينَ يَصومونَ ويُصَلُّونَ ويَتصدَّقونَ، وهم يَخافونَ أنْ لا تقبَلَ مِنهُم، أولئك الذين يُسارعونَ في الخَيرات).
فالمؤمن البصير يستشعر الخوف مِن الله، والخشية مِن عقابه، ويتذكّر دائمًا قول ربّه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2].
قدوته في ذلك سيّد الخلق وحبيب الحقّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومصطفاه، الذي كان أشدّ المؤمنين خوفًا مِن الله، وهيبةً له، وخشيةً مِن جلاله، مع أنّه المغفور له مِن ربّه ما تقدّم مِن ذَنبه وما تأخّر، ولكن ليتعلّم المؤمن الخوف والخضوع لله، والمراقبة لخالقه ومولاه {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرّحمن: 46].
2- الخوف والرَّجاء جناحان متلازمان
الخوف مِن الله لجامٌ قامعٌ، وسيفٌ صارمٌ لمنع المعاصي، وسببه معرفة شدّة عذاب الله، فالمؤمن يخاف مِن ذنوبه، ويخشى سوء الخاتمة، وترهبه سوابقه، فيبعثه خوفه على التّواضع والانكسار، كما يبعثه على اتّقاء المحرّمات والشّبهات، و هناك الرّجاء الّذي سببه معرفة سعة رحمة الله، وهو طمعٌ في كرم الله، ورغبةٌ فيما عنده، وينبغي أن يكون الخوف والرّجاء معتدلين، فإنّ الخوف إذا أفرط فيه صاحبه، قد يجرّه إلى اليأس مِن رحمة الله {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وإذا أفرط المؤمن في الرّجاء قد يجرّه ذلك إلى الأمن والغرور، فالعارفون بالله تسكن نفوسهم، وتطمئنّ قلوبهم عندما يذكرون عفو الله ورحمته، على ما في قلوبهم مِن الخوف والخشية، وكلّما ازدادت معرفتهم قوي خوفهم، وقد وعدهم الله بالنّعيم الدّائم، والرّحمة الشّاملة {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12].
وحتّى لا يجرَّ الخوفُ الإنسان إلى اليأس والقنوط، فتح الله أبواب رحمته ومغفرته أمام عباده الّذين أسرفوا على أنفسهم، ثمّ تابوا إلى ربّهم، وأنابوا إلى مولاهم، فقال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النّساء: 17].
فهذا تقريرٌ شاملٌ، وبيانٌ واضحٌ، بأنّ الله يغفر للّذين عملوا السّيّئات، ثمّ تحسّروا على ما فرّطوا في جنب الله، فمسّهم الألم، وعلاهم الخجل، وغشيهم الحزن، فهرعوا إلى التّوبة والإنابة، وتشبّثوا بحُسن الظّنّ، وعظيم الرّجاء، وإنّ كثيرًا مِن النّاس يغالطون أنفسهم ويخادعونها، ويرتكبون كبائر الإثم والفواحش، ويتمادَون في الغيّ والضّلال، ثمّ بعد هذا يتكلّمون عن رحمة الله، وعفوه ومغفرته، ويقولون: نحن نُحسن الظّنّ بالله، ويدّعون أنّ الأصل المعوّل عليه هو القلب، وأنّ الدّين المعاملة، وبذلك يبرّرون لأعمالهم السّيّئة، وأفعالهم المخزية، ويبرّؤون أنفسهم مِن تحمّل التّبعات، والسّؤال عن الأوزار والخطيئات، وما ذاك إلّا باتّباعهم لأهوائهم، وانقيادهم لشياطينهم، حتّى أضلّوهم عن الطّريق المستقيم {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزّخرف: 36-37].
ولقد بيّن الله صفات الّذين يطلبون مغفرته {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة: 218].
فالمؤمن البصير بأمره، يعمل بطاعة الله على نورٍ مِن الله، يرجو ثواب الله ورضاه، ويترك معصية الله على نورٍ مِن الله، يخاف عذاب الله وعقوبته {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصّلت: 35].
خاتمةٌ:
إنّ ممّا لا شكّ فيه أنّه كلّما كانت السّلعة نفيسةً كان ثمنها باهظًا، ولمّا كانت الجنّة سلعةً غاليةً، كانت جديرةً بالتّعب والتّضحية، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الجَنَّةُ).
فمَن خاف أن يُحرم نعيمها بحلول سخط الله عليه، وجب عليه أن يفزع إلى الله والنّاس نائمون، وأن يبكي ذلًّا بين يدي خالقه والمحرومون غافلون، فليكن المسلم مغلّبًا جانب الخوف مِن الله في حالة الصّحة والرّخاء، حتّى يدفعه خوفه مِن ربّه إلى الإقبال على الطّاعات، والمسارعة في الخيرات، ويمنعه مِن الانغماس في الشّهوات والمنكرات، لينجو يوم العرض الأكبر على ربّ الأرض والسّماوات، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فيما يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ جَلَّ وَعَلَا، أنه قَالَ: (وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ، إِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
وهناك الخوف الأكبر، والأهوال العظيمة، ولا ينجو في ذلك اليوم إلّا مَن خشي وخاف، فإذا ما أقعده المرض، أو كبرت سنّه، ودقّ عظمه، فليغلّب جانب الرّجاء وحُسن الظّنّ بالله، عَنْ جَابِر رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وَفَاتِهِ بِثَلَاثٍ يَقُولُ: (لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللهِ الظَّنَّ).
فلنخشَ الله في السّرّ والعلن، ولنجعل خوف الله شعارنا، وخشيته دثارنا، ولنتب إليه توبةً نصوحًا، فالتّائب مِن الذّنب كمَن لا ذنب له، ولنعلم أنّ خوفنا مِن عذاب ربّنا وتوبتنا إلى مولانا سببٌ لتعجيل الفرَج، واستنزال النّصر، وزوال الكرب.