1- حتَّى تضع الحرب أوزارها
2- جنودٌ مجنَّدةٌ
مقدمة:
الإسلام عقيدةٌ تملأ القلب والفِكر، فتدفع الجوارح إلى الأفعال الّتي تناسب تلك العقيدة، وأعظم ما يؤكّد ذلك أنّ المعجزة الكبرى الخالدة الّتي جاء بها النّبيّ صلى الله عليه وسلم هي القرآن، وهو كلام الله عز وجل الّذي يوضّح تلك الفكرة ويبيّنها للنّاس، إذ لم يرَ كلّ النّاس القمر لمّا انشقّ، ولم ترَ العرب قاطبةً الماء ينبع مِن بين أصابع النّبيّ صلى الله عليه وسلم، لكنّ الّذي ينبغي أن يصل إلى كلّ مَن آمن هو القرآن، كلمة الله الأخيرة لعباده، وكان التّحدّي أن: هاتوا كتابًا أهدى مِن هذا الكتاب أتّبعه، فإن عجزتم وتولّيتم فذا دليل اتّباعكم أهواءكم وإعراضكم عن الحقّ {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ * قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 48-50].
فالإسلام إذ ينتشر بعد ذلك بين النّاس ينتشر بنفس المنطق الّذي بدأ به، وهو إقامة الحجّة على غير المسلم بالقرآن، فها هي الفكرة ما تزال تناقشكم وتكلّمكم وتدلي لكم بحُججها الواحدة تلو الأخرى، وعلى المعاند أن يأتي بكتابٍ أهدى، وهذا محالٌ.
لكن هذه الفكرة الجميلة المقنعة تفترض وجود المعاندين الّذين يعرفون وينحرفون؛ عالِمين قاصدين، وذلك اتّباعًا لأهوائهم، لذا لا بدّ لهذه الفكرة مِن شوكةٍ تحميها، وتدفع عنها أصحاب الأهواء، لذا جاءت الآيات معلنةً وجوب الجهاد، فالله الّذي أنزل القرآن أنزل كذلك الحديد فيه بأسٌ شديدٌ {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].
وذلك لنضرب به وجوه مَن اتّبعوا أهواءهم، حتّى يُدبروا، فإذا أدبروا ضربنا أدبارهم حتّى نراهم يولّون الأدبار ثمّ لا ينصرون {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111].
1- حتَّى تضع الحرب أوزارها
آيات الجهاد كثيرةٌ في القرآن، تحثّنا أن نبذل أنفسنا وأموالنا في سبيل الله، وذلك كي نحمي الفكرة الّتي آمنا بها، فلا يجبرَنا الظّالم على أن نفعل ما لا نعتقد، أو أن نحتكم إلى قانونٍ لا ندين به، فإلى متى سنظلّ نحارب؟ سنحارب حتّى تضع الحرب أوزارها {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمّد: 4].
فإن قيل: لِم يا ربّ تعذّبنا بها الجهاد الطّويل، ألا تكفيناهم دون قتلٍ وقتالٍ؟ تجيبه تمام الآية {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمّد: 4].
فإن قيل: لكنّنا في هذا الجهاد الطّويل سنقدّم الأرواح، وسنخسر شبابنا الّذين هم أمل المستقبل، فتمام الآية يوضّح هذه النّقطة {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمّد: 4-5].
وقد جاهد شعب سوريّا جهادًا كبيرًا، شهد لصبرهم فيه الأعداء والأصدقاء، فهل وضعت الحرب أوزارها، فآن لهم أن ينقلبوا إلى الأموال يثمّرونها، والأنعام يسمّنونها، والبساتين يسمّدونها، حتّى يقطفوا ثمرة النّصر يانعةً طيّبةً، كأنّهم {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقّة: 22-24].
لنرجع إلى سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لننظر في تطبيقه لهذه الآيات، إذ الإسلام فكرةٌ، وخير مَن آمن بها وطبّقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلنرجع ولنسأله عن ناسٍ ألقوا السّلاح إذ انتصروا في هذه الجولة الأخيرة، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ الْكِنْدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَذَالَ النَّاسُ الْخَيْلَ وَوَضَعُوا السِّلَاحَ وَقَالُوا: لَا جِهَادَ قَدْ وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: (كَذَبُوا الْآنَ جَاءَ الْقِتَالُ، وَلَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أَمَةٌ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ، وَيُزِيغُ اللهُ لَهُمْ قُلُوبَ أَقْوَامٍ، وَيَرْزُقُهُمْ مِنْهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ أَوْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ، وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ يُوحِي إِلَيَّ أَنِّي مَقْبُوضٌ غَيْرُ مُلَبَّثٍ، وَأَنْتُمْ مُتَّبِعُونِي أَفْنَادًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وَعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ).
سبحان الله، كأنّ الحديث يخاطبنا -نحن أهل الشّام- إذ الحديث أوّله نصٌّ في المطلوب، وختامه تنويهٌ بالشّام، كأنّه يقول لنا أن استمرّوا في جهادكم يا أهل الشّام، فما ينبغي لعُقر دار المؤمنين أن يلقى فيها السّلاح، وما ينبغي لها وهي كذلك أن تترك ذروة سنام الإسلام (أَوَلَا أَدُلُّكَ عَلَى رَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟ أَمَّا رَأْسُ الْأَمْرِ: فَالْإِسْلَامُ، فَمَنْ أَسْلَمَ سَلِمَ، وَأَمَّا عَمُودُهُ: فَالصَّلَاةُ، وَأَمَّا ذُرْوَةُ سَنَامِهِ: فَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ).
2- جنودٌ مجنَّدةٌ
شعبة التّجنيد، مصطلحٌ طالما كرهه أهل الشّام لِما كان يكتنفه مِن الذّكريات السّيئة الّتي عاشها كثيرٌ مِن السّوريين إذ كانوا يراجعون تلك الشّعب، فهي البوّابة الّتي كان يهيمن بها النّظام المجرم على الشّعب الأعزل، حيث كان يحتكر السّلاح، ويسوق النّاس قهرًا إلى جيشه الظّالم حيث يمنع المسلمين مِن صلاة الجمعة والجماعات، لكنّ دوام الحال مِن المحال، دالت دولة الظّلم، وآن لدولة العدل أن تتمكّن في أرض الشّام، ولا يتمّ ذلك إلّا بالجنود، فلنراجع مفهوم التّجنيد في نصوصنا المقدّسة، عَنِ ابْنِ حَوَالَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (سَيَصِيرُ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ تَكُونُوا جُنُودًا مُجَنَّدَةً جُنْدٌ بِالشَّامِ، وَجُنْدٌ بِالْيَمَنِ، وَجُنْدٌ بِالْعِرَاقِ)، قَالَ ابْنُ حَوَالَةَ رضي الله عنه: خِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ، فَقَالَ: (عَلَيْكَ بِالشَّامِ، فَإِنَّهَا خِيرَةُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ، يَجْتَبِي إِلَيْهَا خِيرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ، فَأَمَّا إِنْ أَبَيْتُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِيَمَنِكُمْ، وَاسْقُوا مِنْ غُدُرِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَوَكَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ).
مرّةً أخرى يطالعنا الحديث بمطلوبنا؛ إذ نبحث عن التّجنيد ولا نغادره قبل أن يتحفنا بالتّنويه بفضل الشّام وجند الشّام، ومعنى صدر الحديث (سَيَصِيرُ الْأَمْرُ) أَيْ: أَمْرُ الْإِسْلَامِ أَوْ أَمْرُ الْقِتَالِ، (أَنْ تَكُونُوا جُنُودًا) أَيْ: عَسَاكِرَ، (مُجَنَّدَةً) أَيْ: مَجْمُوعَةً فِي كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ.
هذا أحد شروح الحديث، فالجُند يجب أن يجتمعوا ويتناصروا، ولن يتمّ اجتماعهم إلّا بالتّجنيد، أي التّجميع، فشُعبة التّجنيد ما دام الحاكم عادلًا مركزٌ يجدر أن يعتزّ المسلم به، وأن يبادر إليه في أيّ قطرٍ مِن أقطار المسلمين كان، فما بالك إن كان بالشّآم؟
هذه ليست دعوةً إلى اعتماد التّجنيد الإلزامي مِن قبل ولاة الأمر، بل هي دعوةٌ إلى التّطوع فيه والالتحاق بِشُعب التّجنيد، لننخرط في صفوف الجُند المجنّدة؛ عسكرًا وأمنًا، إذ الحرب لم تضع بعد أوزارها.
يحيط بنا الكثير مِن الأعداء، ونحن -وإن انتصرنا في جولةٍ هامّةٍ حتّى دخلنا بها دمشق ورحّبت بنا كبرى مدن السّاحل- فإنّنا ما نزال نواجه عدّة أخطارٍ مِن عدّة جهاتٍ، ففلول النّظام المجرم ما تزال تحوز السّلاح في بعض القرى تتحصّن فيها، وما تزال في شرق سوريا قوًى خارجةٌ عن سيطرة الحكم المركزيّ في دمشق وما تزال تلوّح بسلاحها، وتستبيح به خيرات البلاد في ظاهر الأرض وباطنها، وفي الجنوب يهودٌ {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النّساء: 52].
فمع كلّ هؤلاء الأعداء يتخلّف عن الجهاد مؤمنٌ في عقر دار المؤمنين؟
خاتمةٌ:
لَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنْ وَضَعَ سِلَاحَهُ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: أَوَضَعْتَ السِّلَاحَ، وَاللَّهِ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَضَعْ أَسْلِحَتَهَا! فَانْهَضْ بِمَنْ مَعَكَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَإِنِّي سَائِرٌ أَمَامَكَ أُزَلْزِلُ بِهِمْ حُصُونَهُمْ، وَأَقْذِفُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَسَارَ جِبْرِيلُ فِي مَوْكِبِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَثَرِهِ فِي مَوْكِبِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَئِذٍ: (لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ)، فَبَادَرُوا إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَنَهَضُوا مِنْ فَوْرِهِمْ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلِّيهَا إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ كَمَا أُمِرْنَا، فَصَلَّوْهَا بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ سُرْعَةَ الْخُرُوجِ، فَصَلَّوْهَا فِي الطَّرِيقِ، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدَةً مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ.
فإذا رأيت المقاتلين اليوم يضعون أسلحتهم يظنون أنّ الحرب انتهت فذكّرهم أنّ فلول النّظام شيمتهم الغدر ونقض العهد، يشبهون في ذلك بني قريظة، والتّشبيه لا يقضي التّشابه مِن كلّ وجهٍ، فالمقصود ألّا نتخلّف عن ملاحقتهم وبذل الجهد والنّفس في سبيل ذلك، فهو مِن تمام الجهاد الّذي بدأناه.
ونحن في هذه الملاحقة يجدر بنا أن نتنبّه إلى أمر التّصوير ونشر المقاطع المرئيّة الّتي تضرّ بصورة الثّورة، وتَصِمُها بعدم مراعاة حقوق الأسرى، إذ انتشرت اليوم الأجهزة وآلات التّصوير، وليتشفّى الشّاب المقاتل يخرج جهازه المحمول، ويجعل يصوّر ضربه للمجرمين وينشر ذلك في وسائل التّواصل، والأصل هنا ألّا يُنزل العقاب بالمجرمين إلّا القضاة ونوّابهم، فمَن ظفر بمجرمٍ فليسلّمه إلى الجهات المسؤولة وهي توقع به العقاب المناسب، كما يجدر عدم النّشر إلّا مِن الجهات المختصّة، فإذا وصلنا فديو مِن جهة غير رسميّة فلا نساعدنّ في نشره، ولنكن آخر حلقةٍ لسلسلة انتشار هذه المقاطع، وعليه فلا نصوّر، وإن صوّر أحدهم فلا ينشرن، وإن نشر أحدهم فوصل إلينا فلنكن آخر مَن وصل إليه، اللّهمّ أتمم لنا نصرنا، وألهمنا رشدنا في شأننا كلّه، وارزقنا الإخلاص؛ إذ يرائي ناسٌ فيصوّرون.