1- قرآنٌ يكشف خبابا النَّفوس
2- طاعة الصَّحابة رضي الله عنهم
مقدمة:
تمرّ الشّهور والأيّام، وتمضي معها أعمارنا الّتي هي رأس مالنا، فنحن في خسارةٍ دائمةٍ {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3].
ثمّ يمنّ الله عز وجل علينا في مرّ الأيّام بزمانٍ فاضلٍ، ينجو مَن استثمره مِن خسارةٍ نصّ الله سبحانه عليها في سورة العصر، ومِن هذه الأزمنة المميّزة: شهر شعبان الّذي نحن فيه، فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شأنٌ مختلفٌ، فكان -مثلًا- يكثر مِن الصّيام فيه؛ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: "كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ صَامَ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَفْطَرَ، وَلَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ، أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا".
وقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سرّ هذا الإكثار مِن الصّيام، فذكر مزيّةً لهذا الشّهر؛ قَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنَ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: (ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ).
ومِن مزاياه ليلة النّصف منه؛ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ).
ويطيب لنا أن نقف مع تشريعٍ ميّز هذه الأمّة عن سواها، وكان بدء هذا التّشريع في شهر شعبان، إنّه تحويل القِبلة.
1- قرآنٌ يكشف خبابا النَّفوس
أمر الله عز وجل المسلمين بالتّحوّل عن الصّلاة شطر بيت المقدس إلى الصّلاة شطر البيت الحرام في مكّة المكرمة، وأثبت جل جلاله في الوقت نفسه مقالةً للسّفهاء، وردّ عليها {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142].
قد يبدو غريبًا للبعض إثبات مقالة السّفهاء في قرآنٍ يتلى إلى يوم الدِّين، لكنّ الحكمة اقتضت ألّا تُترك رواية السّفهاء دون تفنيدٍ وبيانٍ لتهافتها، ويجدر أن تكون هذه سياسةً متّبعةً مع الرّوايات الّتي يبثّها أعداء الدِّين، فنردّ عليها ونبيّن فسادها أحيانًا، أمّا أن نعرض دائمًا عن إطلاقاتهم ودعاواهم؛ فقد تجد تلك الدّعاوى صدىً لدى بعض النّفوس، فنحن وإن رأيناهم سفهاء، لا يؤبه إلى مقالاتهم لكنّ المجتمع الواسع فيه البرّ والفاجر، والذكيّ والغبيّ، فلنحرص على دحض شبهات الأعداء.
وقد بيّن الحقّ سبحانه أنّ تحويل القِبلة هذا اختبارٌ لإيمان المؤمنين، وبيّن اختصاص هذه الأمّة بالوسطيّة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا القِبلة الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143].
شبهة السّفهاء -سابقة الذِّكر- ستترك أثرًا في بعض النّفوس، وسينقلب ناسٌ على عقبيهم، أمّا المؤمنون، فثابتون على موقفهم مِن طاعة الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والإيمان في هذه الآية هو الصّلاة؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: لَمَّا وُجِّهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الكَعْبَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} الآيَةَ.
وكما كشفت آيات تحويل القِبلة ما في نفوس المنافقين والمؤمنين فقد كشفت ما كان يعتمل في صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن رغبةٍ في استقبال البيت الّذي رفع قواعده أبواه إبراهيم وإسماعيل {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 144].
2- طاعة الصَّحابة رضي الله عنهم
نتعلّم مِن قصّة تحويل القِبلة قيمةً مهمّةً يجدر أن تنضبط بها أمور حياتنا، وهي: المبادرة إلى طاعة الخبر الآتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ المَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ، أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ (صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلاَةٍ صَلَّاهَا صَلاَةَ العَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ البَيْتِ، وَكَانَتِ اليَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ، وَأَهْلُ الكِتَابِ، فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ البَيْتِ، أَنْكَرُوا ذَلِكَ).
وهكذا كان شأن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا نجحوا وأفلحوا، فالقاعدة العامّة أنّ الله يُرسل الرّسل ليُطاعوا لا ليُعصَوا {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النّساء: 64-65].
وما أكثر ما أمرت الآيات بطاعة الرّسول صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 31-32].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النّساء: 59].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20].
إلى آخر تلك الآيات الّتي يصعب حصرها، وهذا كان اختبار المنافقين وضعيفي الإيمان أن يطيعوا الرّسول فيما لا تقبله نفوسهم أوّل الأمر.
فالطّاعة فيما تقبله النّفوس وتُقبل عليه أمرٌ هيّنٌ محمولٌ، لكنّ الطّاعة في سوى ذلك يمتاز بها المؤمن -قويّ الإيمان- عن ضعيفه، أمّا قويّ الإيمان فيَصْدق فيه {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
خاتمةٌ:
لمّا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي في مكّة كان ممْكنًا له أن يجمع القبلتين معًا في صلاته، فيستقبل بيت المقدس والكعبة في آنٍ معًا، حتّى إذا هاجر إلى المدينة المنوّرة تعذّر ذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ أن تمتاز شريعته عن شريعة اليهود، ويريد للقِبلة أن تكون مَعلمًا فارقًا بين شريعته وسائر الشّرائع، وقد نصّ على أنّ استقبال القِبلة مِن الحدود الّتي تمتاز بها هذه الأمّة عن سواها، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا، وَصَلَّوْا صَلاَتَنَا، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ).
وعَنِ البَرَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: (مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، فَلاَ يَذْبَحْ حَتَّى يَنْصَرِفَ).
وقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تمايز أمّته عن سائر الأمم، فكان يأمر في مناسباتٍ عديدةٍ بمخالفة اليهود، عَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: اهْتَمَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلصَّلَاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ النَّاسَ لَهَا، فَقِيلَ لَهُ: انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ فَإِذَا رَأَوْهَا آذَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ، قَالَ: فَذُكِرَ لَهُ الْقُنْعُ -يَعْنِي الشَّبُّورَ وَقَالَ زِيَادٌ: شَبُّورُ الْيَهُودِ - فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ، وَقَالَ: (هُوَ مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ) قَالَ: فَذُكِرَ لَهُ النَّاقُوسُ، فَقَالَ: (هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى).
فهذه القِبلة ما تزال منصوبةً أمامنا، تعلن وحدتنا، وتمايزَنا عن سائر الأمم، فمَن رأيناه يصلّي إلى هذه القِبلة فلنقم له بحقوق الأخوّة، ولتنذكّر أُولى القبلتين بيت المقدس المغتصب بيد أولئك الّذين طالما رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخالفهم، ولنبادر إلى طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما بادر الصّحابة إذ بلغهم عنه خبر تحويل القِبلة، فالفلاح كلّ الفلاح في طاعته.