الأربعاء 14 جمادى الأول 1447 هـ الموافق 5 نوفمبر 2025 م
رِحلةٌ في جسد الإنسان، وتأمُّلٌ في نِعم الرَّحمن
الأربعاء 14 جمادى الأول 1447 هـ الموافق 5 نوفمبر 2025 م
عدد الزيارات : 73
رِحلةٌ في جسد الإنسان، وتأمُّلٌ في نِعم الرَّحمن
عناصر المادة
1- آياتٌ في الأنفس
2- الخالق الرَّازق
مقدمة:
التّفكّر عبادةٌ قلبيّةٌ عظيمةٌ، تفتح للعبد باب المعرفة بالله، وتزيده خشوعًا وشكرًا {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 17-21].
{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذّاريات: 20-22].
العلوم الكونية ليست مجرّد معلوماتٍ، بل وسائل للتّأمّل في عظمة الخالق، فلنعلّم أبناءنا ذلك في المدارس.
لا يستطيع الإنسان أن يعيش دون هواءٍ وماءٍ وغذاءٍ، والله رزقنا الهواء بلا مقابل، والماء في الأرض، والطّعام مِن النّبات والحيوان، بعد دخول هذه النّعم إلى الجسم، لا بد مِن تصريفها بعد الانتفاع بمفيدها: النّفَس يخرج، والبول، والغائط، والعرق... كلّها عملياتٌ منظّمَةٌ، ومَن أكل ولم يستطع الإخراج فهو في حالةٍ مرَضيّةٍ، رغم توفّر الطّعام، فاكتمال النّعمة يكون بالأكل والهضم والإخراج، ثمّ يأتي التّكليف الشّرعيّ بالوضوء أو الغُسل، وخروج المنيّ -وهو ثمرة الغذاء- فيه لذّةٌ، كما أنّ الطّعام فيه لذّةٌ، لكنّ المنيّ يوجب الغُسل إذ يلتذّ المرء فيه بوجهين، يلتذّ بدخوله طعامًا وبخروجه منيًّا، والطّعام يوجب الوضوء بعد خروج فضلاته، هذا يشير إلى أنّ الشّريعة تراعي أثر اللّذّة على النّفس، وتُوجِّه الإنسانَ للعودة إلى الله بعد انخراطه في الجانب المادّيّ، فمَن أدمن اللّذّات دون ربطها بالله، ضعف إيمانه، أمّا مَن حمد الله على كلّ نعمةٍ، زاد قربه مِن ربّه.
الشّريعة لم تجعل الوضوء واجبًا إلّا بعد اكتمال النّعمة، والاستنجاء للنّظافة والتّطهّر، ولحماية البدن مِن الأمراض، والدّعاء عند الخروج مِن الخلاء: (‌غُفْرَانَكَ). سنن ابن ماجه: 300
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ‌أَذْهَبَ ‌عَنِّي ‌الْأَذَى وَعَافَانِي). سنن ابن ماجه: 301
فيه شكرٌ واعترافٌ.
1- آياتٌ في الأنفس
كما أن كلّ نارٍ تحتاج إلى أكسجين لتشتعل، فإنّ أجسامنا تحتاج إلى الأكسجين لحرق الطّعام وتحويله إلى طاقةٍ، هذا الاحتراق الدّاخلي يُسمّى الاستقلاب أو الأيض، وهو ما يُبقي خلايا الجسم حيّةً وفعّالةً، وبلا الأكسجين لا يمكن للجسم أن يستفيد مِن الطّعام، تمامًا كما لا تشتعل نارٌ بلا هواءٍ، تأمّل في تصميم المدافئ: لها مداخل للهواء لتنظيم الاحتراق، ومخارج لطرد الغازات المحترقة؛ كذلك أجسامنا: يدخل إليها الأكسجين عبر الأنف والرّئتين، وتخرج مِن الرّئتين، كذلك الغازات الضّارّة مثل ثاني أكسيد الكربون، لو غاب الأكسجين عن الهواء لاضطر النّاس لحمل أسطوانات أكسجين في الشّوارع، كما يفعل المرضى في غرف العناية.
الهواء الّذي نتنفّس يحتوي على الأكسجين بنسبةٍ مناسبةٍ، دون أن ندفع ثمنًا أو نجهد في الحصول عليه، نحتاج إلى الطّعام والشّراب كلّ بضع ساعاتٍ، لكن نحتاج إلى الأكسجين كلّ ثانيةٍ، بمعدّل 10–12 نفسًا في الدّقيقة، هذه النّعمة المستمرّة تستحقّ منّا شكرًا دائمًا وتأمّلًا عميقًا في عظَمة الخالق.
 كيف ينتقل الأكسجين داخل الجسم؟ عندما يدخل الأكسجين إلى الرّئتين يكون تركيزه عاليًا مقارنةً به في الدّم، ينتقل الأكسجين مِن الرّئتين إلى الدّم، بينما ينتقل ثاني أكسيد الكربون مِن الدّم إلى الرّئتين ليخرج مع الزّفير، هذا يتمّ وفق قانونٍ فيزيائيٍّ بسيطٍ: الغازات تنتقل مِن التّركيز الأعلى إلى الأدنى، وجهاز الدّوران (القلب والأوعية الدّمويّة) يتكفّل بنقل الأكسجين مِن الرّئتين إلى كلّ خليّةٍ في الجسم، كلّ خليّةٍ تحتاج إلى الأكسجين لتبقى حيّةً وتقوم بوظائفها، مَن الّذي علّم الدّم أن يلتقط الأكسجين؟ إنّها حكمة الله في خلقه، وقوانين دقيقةٌ تسير بلا تدخّلٍ بشريٍّ.
فالقلب: المحرّك الّذي لا ينام، القلب هو العضو الّذي يعمل بلا توقّفٍ، كلّ نبضةٍ تدفع الدّم في رحلةٍ عبر الجسم، حاملًا معه الأكسجين والغذاء لكلّ خليّةٍ، لو توقف القلب للحظةٍ، توقّفت الحياة، ومع ذلك، لا نشعر به إلّا إذا اختلّ نظامه، والخضاب مادّةٌ موجودةٌ في الدّم، شديدة الارتباط بالأكسجين، عندما يصل الدّم إلى الرّئتين، يلتقط الأكسجين فورًا، ويحمله إلى أنحاء الجسم، إنّ هذا النّظام المعقّد والدّقيق لا يمكن أن يكون صدفةً، بل هو مِن تدبير العزيز الحكيم.
العِلم الحديث يكشف لنا تفاصيل مذهلةً عن أجسامنا، لكنّها ليست مجرّد معلوماتٍ، بل دعوةٌ للتّأمّل والشّكر، مَن رأى هذه النّعم ولم يشكر الله، فقد غفل عن أعظم ما في العِلم: أن يقودك إلى معرفة ربّك {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصّلت: 53].
2- الخالق الرَّازق
حين نأكل لا نتنبّه إلى أنّ تلك اللّقمة الصّغيرة الّتي ستخوض رحلةً طويلةً داخل أجسامنا، تبدأ الرّحلة مِن الفم، حيث تعمل الأسنان والأضراس على تقطيع وطحن الطّعام، واللُّعاب على تليينه وبدء هضمه، واللّسان يوجّه الطّعام نحو الحَلق، ومنه إلى المريء، ثمّ إلى المعدة، في حركةٍ منسّقةٍ ومدروسةٍ، في المعدة يُخلط الطّعام مع عصاراتٍ قويّةٍ تُذيب البروتينات وتحضّره للامتصاص، جدار المعدة لا يتأثّر بهذه العصارات القويّة، لأنّه مغطًى بطبقة حمايةٍ مذهلةٍ، تخيّل لو أنّ هذه الطّبقة لم تكن موجودةً؟ لأصبحت المعدة تهضم نفسها! بعد المعدة ينتقل الطّعام إلى الأمعاء الدّقيقة، حيث يتمّ امتصاص العناصر الغذائيّة، هناك تتدخّل الكبد والبنكرياس "المعثكلة" بإفرازاتٍ تساعد على تحليل الدّهون والسّكريّات والبروتينات، كلّ ذرّة غذاءٍ مفيدةٍ تُمتصّ وتُرسل إلى الدّم، لتغذية كلّ خليّةٍ في الجسم، وما تبقّى مِن الطّعام، ممّا لا يحتاجه الجسم، ينتقل إلى الأمعاء الغليظة، هناك يُمتص الماء، ويتحوّل الباقي إلى فضلاتٍ تُطرح خارج الجسم.. نظامٌ دقيقٌ، لا يضيّع شيئًا نافعًا، ولا يحتفظ بما يضرّ، وبالنّظر إلى الجهاز العصبيّ نجد الدّماغ -وهو أعقد عضوٍ في الجسم- هو مَن يفسّر ما نراه ونسمعه، ويصدر الأوامر لكلّ حركةٍ نقوم بها حتّى أثناء النّوم، يواصل الدّماغ عمله، والأعصاب تشبه الأسلاك الّتي تربط الدّماغ بكلّ جزءٍ مِن الجسم، تنقل الإشارات بسرعةٍ مذهلةٍ، بها نشعر بالحرارة والبرودة، ونستجيب للألم، ونحرّك عضلاتنا بدقّةٍ، لو لم يكن هناك جهازٌ عصبيٌّ، لما استطعت أن ترفع يدك أو تضحك أو تتذكّر اسمك، كلّ حركةٍ، وكلّ فكرةٍ، وكلّ شعورٍ… يتم عبر إشاراتٍ كهربائيّةٍ وكيميائيّةٍ دقيقةٍ.
وبالنّظر إلى الجهاز الدّعاميّ نجد الهيكل العظميّ: دعامة الجسد وصندوق الحماية، فأجسامنا تحتوي على العظام الّتي تحمي الأعضاء الحسّاسة: الجمجمة تحمي الدّماغ، والقفص الصّدريّ يحمي القلب والرّئتين، وبلا هذا الهيكل كنّا سنكون مجرّد كتلةٍ رخوةٍ لا تستطيع الوقوف، والمفاصل: مفاتيح الحركة المرنة، المفاصل تربط العظام ببعضها، وتمنحنا القدرة على الانحناء والدّوران والمشي، بعضها يتحرّك بحرّيّةٍ، مثل مفصل الكتف، وبعضها محدود الحركة، مثل مفصل الرّكبة، والعضلات: المحرّكات الّتي تستجيب للأوامر، العضلات ترتبط بالعظام، وتتحرك عندما تصلها إشاراتٌ مِن الجهاز العصبيّ، فلينظر امرؤٌ في نعمة الله عليه، فلا تمشينّ رجله إلّا إلى معروفٍ، ولا يُحرّكنّ عضلةً أو عظمًا إلّا لطاعةٍ، حتّى الابتسامة تحتاج إلى عضلاتٍ! وكلّ حركةٍ نقوم بها هي نتيجة عملٍ جماعيٍّ داخليٍّ، فتأمّل في هذا البناء العجيب.
مَن الّذي رتّب العظام بهذا الشّكل؟ ومّن الّذي جعلها قويّةً وخفيفةً في آنٍ معًا؟ كيف تعرف العضلات اللاإراديّة متى تتحرّك؟ وكيف تتعاون مع العظام والمفاصل؟ إنّه تدبير الله الحكيم، الّذي خلق الإنسان في أحسن تقويمٍ.
خاتمةٌ:
 {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 64].
تأمّل في هذه النّعم العظيمة، هل فكّرت يومًا كيف يعرف جسمك ما يحتاجه مِن الطّعام؟ وكيف يطرح ما لا يحتاجه؟ مَن الّذي علّم المعدة أن تفرز العصارات؟ ومَن علّم الأمعاء أن تميّز بين المفيد والضّار؟ إنّها آيات الله في خلقه، تدعونا للتّأمّل والشّكر، مَن الّذي علّم القلب أن ينبض بهذا الانتظام؟ ومَن الّذي صمّم هذه الشّبكة الدّقيقة مِن الأوعية الدّمويّة؟ إنّها آيات الله في أنفسنا، مَن الّذي علّم الخلايا العصبيّة أن تتواصل؟ ومَن الّذي نظّم هذا التّناغم العجيب؟ تأمّل في هذه النّعمة الخفيّة، نحن نعيش داخل أجسادنا، لكنّنا لا نرى كيف تعمل مِن الدّاخل، الجهاز العصبيّ يعمل بصمتٍ، لكنّه يتحكم في كلّ شيءٍ، إنّه مِن أعظم آيات الله في خلق الإنسان، ودعوةٌ للتّفكّر، والتّفكّر في خلق الله يقود إلى الإيمان والخشوع والشّكر.
العلوم الحديثة تساعدنا على فهمٍ دقيقٍ لنعمة البدن، فلنربط كلّ نعمةٍ بالله، ولنحمده عليها، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا). صحيح مسلمٍ: 2734
 
1 - سنن ابن ماجه: 300
2 - سنن ابن ماجه: 301
3 - صحيح مسلمٍ: 2734
دور الخطباء في سوريا ؟!
دور فعال ومؤثر (صوتأ 125) 80%
غير فعال (صوتأ 27) 17%
لا أدري (صوتأ 4) 3%
تاريخ البداية : 26 ديسمبر 2013 م عدد الأصوات الكلي : 156