1- بالاستغفار ننال رُتبة الأبرار
2- إدمان الخطايا يحجب العطايا
مقدمة:
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزّمر: 53-56].
يدعو الله جل جلاله العصاة الغافلين، والمعرضين المسرفين، للإنابة والتّوبة، والتماس العفو والرّحمة، ويخبرهم أنّه غفّار الذّنوب، وستّير العيوب، لكلّ مَن استغفر وتاب، ورجع وأناب، مهما كثرت ذنوبه وعظمت، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه (أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا، فَأَتَوْا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً، فَنَزَلَ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ}).
ولقد جعل الله عز وجل الإنسان مُهيّئًا للوقوع في الخطأ، فإن تاب مِن ذنبه، واستغفر مِن زلّته، أصبح مِن خير النّاس عند ربّه، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ).
ولمّا علم الله سبحانه أنّ عباده ضعفاء، فتح لهم باب العفو والرّجاء، وأخبرهم عن سعة رحمته، وعظيم مغفرته، فقال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 49].
فمهما جدّ المؤمن واجتهد، فلا بدّ أن يلمّ بذنبٍ، صغيرٍ أو كبيرٍ، ولا ملاذ لنا نلوذ به، ولا حصن نلتجئ إليه، ونعتمد عليه في تطهير نفوسنا مِن الذّنوب والآثام، ونستجلب به رحمة الرّحيم الرّحمن، إلّا التّوبة النّصوح، والإنابة الصّادقة، بين يدي علّام الغيوب وغفّار الذّنوب {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النّور: 31].
1- بالاستغفار ننال رُتبة الأبرار
خلق الله جل جلاله الإنسان، ولم يجعله مجرّدًا للعبادة والطّاعة، كما هو شأن الملائكة المقرّبين، الّذين هم بمقتضى الخلق والتّكوين {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التّحريم: 6].
ولكنّ الإنسان -بما رُكّب فيه مِن قوّتي الشّهوة والغضب- مستعدٌّ للتّفكير في الذّنوب، والوقوع في الخطايا، فكثيرًا ما يضعف عن مكافحة عوامل الشّهوة، فتتسلّط عليه وتخرجه عن حدود ما رسم الله ورسوله، وسعادته عند الله عز وجل لا تتوقّف على أن يكون ملَكًا كريمًا، أو رسولًا معصومًا، سليمًا مِن الذّنوب والمعاصي سلامةً مطلقةً، لا يشوبها لممٌّ، ولا يغيّر لونها ذنبٌ، ولكن حسبه أن يحظى بمكانة المتّقين، ومقعد الصّدّيقين، أن يعرف إذا وقع في المخالفة والعصيان أنّه وقع في الشّرّ، ودنّس نفسه، وأغضب ربّه، فيسرع إلى تطهير نفسه، بتذكّر عظمة خالقه، والتماس عفوه، وها هو القرآن الكريم يحدّثنا عن صنفٍ مِن المتّقين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135].
ومِن هنا لم يكن مجرّد الوقوع في الذّنوب حائلًا بين العبد وسموّ درجته عند خالقه، فإنّ ذِكر الله والاستغفار يدفعان المؤمن إلى المسارعة إلى مرضاة الله، فيمشي على صراطٍ مستقيمٍ.
ولقد كان الاستغفار دأب الأنبياء والصّالحين، وسلاح المذنبين ضدّ الشّياطين، فإبليس أهلكه علوّه واستكباره، وآدم عليه السلام أنجاه توبته واستغفاره {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
وهذا نوحٌ عليه السلام يبادر بالاستغفار {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47].
ويطلب إبراهيم عليه السلام مِن ربّه أن يغفر له ولوالديه وللمؤمنين {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41].
واستغفر موسى ربّه لما رأى فساد قومه {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف: 151].
ثمّ يأتي خاتم الأنبياء والمرسلين محمّدٌ صلى الله عليه وسلم ممتثلًا أمر مولاه {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النّصر: 3].
فكان ملازمًا الاستغفار في اللّيل والنّهار، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً).
فهلّا اقتدينا به صلى الله عليه وسلم؛ لننال محبّته، ونسعد بقربه.
2- إدمان الخطايا يحجب العطايا
عندما تعظم المحن، وتكثر الفتن، وتتفاقم الكروب، وتتابع الهموم، فإنّ النّاس يسعون جاهدين للبحث عن حلٍّ لها، ودراسة أسبابها، لإيجاد علاجها، ولقد ابتلي المسلمون ببلايا عظيمةٍ، ومحنٍ كبيرةٍ، وأزماتٍ معقدّةٍ، شتّت شملهم، وفرّقت جموعهم، فقلّت الخيرات، وحُبس القطر والبركات، وعمّ القحط والجدب كثيرًا مِن أراضي المسلمين، وإنّنا نجد علاج ذلك في كتاب الله الكريم، الّذي جعله تبيانًا لكلّ شيءٍ، فذنوب العباد سبب المشكلات، واستغفارهم مؤذنٌ برفع عذاب ربّ الكائنات {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33].
وأمّتنا بحاجةٍ إلى الأرزاق، الّتي سببها الأمطار، كما أنّها بأمسّ الحاجة إلى القوّة الّتي ترّد بها بأس عدوّها، ولا سبيل إلى ذلك إلّا بالتّوبة والاستغفار {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52].
وكان الصّالحون الأخيار يستنزلون خيرات السّماء بكثرة الدّعاء و الاستغفار، ولقد أخبر الله عز وجل نبيّه محمّدًا صلى الله عليه وسلم أنّ بني إسرائيل حُبست عنهم أمطار السّماء وخيرات الأرض بسبب ذنوبهم، وإعراضهم عن كتاب ربّهم {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66].
كما أخبر عن قومٍ سبقوا أنّهم حُرموا البركات -أيضًا- بسبب كفرهم وتكذيبهم {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96].
والنّاس مجبولون على محبّة الخيرات العاجلة مِن المال والأولاد، وحلول الرّزق وإنبات الأرض، وسبيل ذلك كلّه التّوبة والاستغفار {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10-12].
وقد جاء في القرآن ما يدلّ على أنّ الأمّة إن لزمت الاستغفار، حفظها الله مِن الأخطار، وأفاض عليها مِن كرمه {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3].
فحقيقٌ بكلّ عبدٍ رزقه الله سبحانه نعمةً أن يشكر، وجديرٌ بكلّ مبتلًى أن يستغفر ويصبر، حتّى يُكشف بلاؤه، ويكثر رزقه.
خاتمةٌ:
ما أعظم بركات الاستغفار! به تنهلّ الخيرات، وتتنزّل الرّحمات، ويحلّ رضى ربّ العباد، فيهب لخلقه القوّة والرّشاد، فالمستغفرون محلّ رعاية الله عز وجل، وأهلٌ لحفظه ورحمته، وهو مشروعٌ في كلّ وقتٍ وحينٍ، ولكن هناك أوقاتٌ وأحوالٌ مخصوصةٌ، يكون للاستغفار فيها مزيد فضلٍ، فقد أثنى الله سبحانه على المستغفرين في الأسحار، فهو وقت الصّفاء والنّقاء {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17].
وهو وقت تجلّي الغفور الرّحيم، صاحب الجود العميم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يَنْزِلُ رَبُّنَا عز وجل كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ).
كما يستحبّ الاستغفار قبيل القيام مِن المجلس، وبعد الفراغ مِن أداء العبادات، ليكون كفّارة لما يقع فيها مِن خطأٍ أو خللٍ، وبالتّوبة والإنابة تُغفر الذّنوب ولو بلغت عنان السّماء، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَبْلُغَ خَطَايَاكُمْ السَّمَاءَ، ثُمَّ تُبْتُمْ لَتَابَ الله عَلَيْكُمْ).
فربّنا جوادٌ كريمٌ، غافر الذّنب، وقابل التّوب، يجيب مَن دعاه، ولا يخيّب مَن رجاه {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61].
وقد أكّد محبّته للتّائبين {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
فأجمل بوسام شرف الحبّ، الذّي يكرم به الرّبّ، لكلّ مستغفرٍ يطلب مِن مولاه القرب.