1- بالثَّبات تتحقَّق الغايات
2- الفرَج مع الكرب
مقدمة:
إنّ الشّدائد تصهر الرّجال، وتُظهر الأبطال، والدّنيا تارةً رخاءٌ، وآونةً بلاءٌ، وإنّ الحياة مليئةٌ بالمتاعب والأحزان، إن صفت يومًا كدّرت أيّامًا، وإن أضحكت ساعةً أبكت ساعاتٍ، لا تدوم على حالٍ.
ثمانيةٌ تجري على النّاس كلّهم ولا بدّ للإنسان أن يلقى الثّمانية
سرورٌ وحزنٌ واجتماعٌ وفرقةٌ ويسرٌ وعسرٌ ثمّ سقمٌ وعافية
وإنّ خير النّاس مَن لا تُبطره النّعمة، ولا تُضعفه الشّدّة، فتراه في النّعماء شاكرًا، وفي البأساء صابرًا، قانتًا لله منيبًا، كإبراهيم عليه السلام {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النّحل: 120-121].
والمؤمن الصّادق لا يستكين للحادثات، ولا يضعف أمام الملمّات، بل يحاول التّخلّص منها في حزم الأقوياء، قدوته في ذلك إمام الصّابرين، فقد حلّ به وبأصحابه الكرام مِن الشّدائد والابتلاء ما تقشعرّ له الأبدان، فما وهنوا وما ضعفوا، بل قابلوا كلّ خطبٍ بصبرٍ وثباتٍ {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رضي الله عنه قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: (قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ).
وقد رأينا كيف صمدت غزّة الأبيّة، وما خارت قواهم، ولا ضعفت عزائمهم، بل لقّنوا العالم معنى الجهاد والثّبات، حتّى أذن الله عز وجل بالنّصر، وكفّ عنهم المجرمين.
1- بالثَّبات تتحقَّق الغايات
الثّبات في الأمور خُلقٌ مِن أخلاق القرآن الكريم، نحتاج إليه أشدّ الاحتياج، لأنّ طريق الطّاعة طويلٌ، وطريق الأبطال وتحقيق الآمال شاقٌّ، لا بدّ له مِن مداومةٍ واستمرارٍ، وقد ذكّر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم رسوله بنعمة الثّبات، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32].
والجهاد مِن المواقف المشهودة الّتي تحتاج إلى الثّبات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
فالثّبات في الجهاد قوّةٌ معنويّةٌ لها قيمتها، فقد يكون السّلاح والعتاد في أيدي المجاهدين، وفيهم الكثرة والقوّة الحسّيّة، ومع ذلك يظلّون بحاجةٍ إلى القوّة المعنويّة، والبُصَراء بأمور النّضال يقرّرون أنّ الثّبات يكون في كثيرٍ مِن الأحيان السّبب القويّ والأخير للنّصر والفوز، فالجيوش تتصارع، والأكثر منهم صبرًا واستمرارًا يكون هو الفائز الغالب، وقد أخبر القرآن عن رباطٍ وثيقٍ بين الثّبات الحسّيّ والثّبات المعنويّ حين يتوافر الإيمان واليقين، فقال في شأن غزوة بدرٍ: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 11-12].
ولقد ضرب النّبيّ صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في التّمسّك بالحقّ رغم الأذى والتّعذيب، وربّنا جل جلاله ثبّت فؤاده بذكر قصص مَن قبله {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120].
وهاهم مجاهدو غزّة الأبطال قد سطّروا أسمى معاني البطولة حينما جاهدوا بقلوبٍ ثابتةٍ وعزائم صادقةٍ، فخذل اللهُ عدوَّهم، جزاء ما تحمّلوا مِن متاعب، وتجشّموا مِن مصاعب، لأنّهم علموا أنّ الثّبات على الأعمال سرّ النّجاح، وأنّ المرء لا يبلغ أمنيّته إلّا بالصّبر والمجاهدة، مِن غير أن يجعل لليأس عليه سبيلًا، ولا يفشل في عمله إلّا مَن ضعفت عقيدته، وخارت عزيمته، فقعد عن مواصلة العمل، ولم يهتدِ إلى بلوغ الأمل.
2- الفرَج مع الكرب
لقد قضى الله عز وجل بحكمته لعباده أن تصيبهم الأحزان والآلام {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4].
وأقسم أنّه سيبتليهم {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155].
اختبارًا لهم {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2-3].
وقد جعل الحياة تارةً سعةً، وتارةً ضيقًا، حتّى يكون الإنسان شاكرًا صابرًا، حيث إنّ الأيّام دولٌ {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].
فكم نزلت الشّدائد والابتلاءات بالأنبياء، فأعقبها الله سبحانه فرَجًا، فهذا يونس عليه السلام {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87-88].
وهذا يوسف عليه السلام أُلقي في غيابة الجبّ، وبيع بثمنٍ بخسٍ، وسُجن ظلمًا فجاءه الإكرام بعد ذلك {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
ولمّا اشتدّ البلاء بأيّوب عليه السلام كشف الله عز وجل ضرّه {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [الأنبياء: 83-84].
ويبلغ الأذى والتّعذيب مبلغه مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، حتّى يضطر للخروج مِن مكّة، أحبّ البلاد إليه، ويتوجّه إلى المدينة لتبليغ رسالة ربّه، ثمّ ما يلبث أن يعود فاتحًا منتصرًا، فلننظر كيف حفظ الله جل جلاله نبيّه وصحبه الأطهار، وها هو يكرم أهل غزّة الكرام، وتبقى رؤوسهم مرفوعةً لا تنحني إلّا لربّها، وحُقّ للتّاريخ أن يسجّل جهاد هؤلاء الأبطال المشرق، وثباتهم العجيب بماء الذّهب.
خاتمةٌ:
جديرٌ بالمؤمن أن يلازم تقوى الله سبحانه، وأن يتوكّل عليه وحده، لا سيّما عند الوقوع في الشّدائد والضّوائق {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطّلاق: 3].
فإذا علّق المؤمن قلبه بربّه عز وجل، ولجأ إليه وحده، فرّج عنه الكروب، وقضى له الحوائج {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النّمل: 62].
وربّنا جل جلاله يريد مِن عباده أن يتضرّعوا بين يديه، ويتذلّلوا على أعتابه {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام: 43].
ويكثروا مِن ذِكْره، فذِكْره سببٌ مِن أسباب تبديل العسر يسرًا، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنِ أكْثَرَ مِنَ الاسْتِغْفَارِ، جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).
و لمّا تعلّقت قلوب أهل غزّة الكرام بربّهم سبحانه -في الوقت الّذي تخلّى عنهم فيه العالَم بأسره- أذن الله عز وجل لهم بالفرَج، جزاء حُسْنِ ظنّهم بالله جل جلاله، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي).
فلنكن مع أهل الحقّ ثابتين، ولا ننخدع بكثرة المخالفين مِن أعداء الدّين، فإنّ جند الله هم الغالبون، عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ).