بسم الله الرحمن الرحيم
من أخلاقنا في الجهاد
- أذلةٍ على المؤمنين أعزة على الكافرين، كتمان الأسرار، المحافظة على المرافق العامة-
مقدمة: إن الجهاد في سبيل الله له شروط وضوابط وآداب وأخلاق، بغيرها يتحول هذا الجهاد إلى ظلمٍ وبغيٍ وإفسادٍ في الأرض، بل بإمكاننا أن نقول أنه ليس جهاداً، وإن التاريخ الطويل للفتوحات الإسلامية ليشهد بعظمة هذا الدين وأنه رحمة للعالمين، و هذا ما شهد به الأعداء أيضاً من عدل ورحمة الإسلام من خلال كتائب الإيمان وهي تنشر نور الإسلام بين الأمم.
يقول غوستاف لوبون: (ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب)، ويقول توماس آرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" عن عدل المسلمين في البلاد المفتوحة :
( ولما بلغ الجيش الإسلامي وادي الأردن وعسكر أبو عبيدة في (فحل) كتب الأهالي المسيحيون في هذه البلاد إلى العرب يقولون : يا معشر المسلمين أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا وأنتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا ولكنهم غلبونا على أمرنا ومنازلنا).
عناصر الخطبة:
1- أذلةٍ على المؤمنين أعزة على الكافرين.
2- كتمان الأسرار.
3- المحافظة على المرافق العامة.
1- أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين:
إن من الصفات التي ينبغي أن يتصف بها كلُّ مسلم فضلاً عن المجاهد، هي الرحمة بالمسلمين، بل الرحمة بكلِّ شيء من الكائنات حياً كان أو غير حيٍّ، بل والرحمة بالكافرين من حيث إرادة الهداية لهم ودخولهم في الإسلام حتى ينجوا من عذاب الله، قال صلّى الله عليه وسلّم :( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من السماء). (رواه أحمد /6494، وأبو داود / 4941، والترمذي / 1924، وغيرهم، وصححه الألباني).
وقال صلّى الله عليه وسلّم :( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).رواه مسلم
والشدةُ والغلظةُ من الصفات المذمومة بالمسلم إلا في موضعها، ومن المَواطنِ التي تكون فيها الغلظة صفةً محمودةً بالمسلم الجهادُ في سبيل الله.
وهذه بعض الآيات والأحاديث التي تبين هذه المعاني:
قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة54)
قال ابن كثير رحمه الله في قول الله:( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)
(هَذِهِ صِفَاتُ الْمُؤْمِنِينَ الكُمَّل أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ مُتَوَاضِعًا لِأَخِيهِ وَوَلِيِّهِ، مُتَعَزِّزًا عَلَى خَصْمِهِ وَعَدُوِّهِ)
وقال تعالى:( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)(الفتح:29)
قال ابن كثير: وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ شَدِيدًا عَنِيفًا عَلَى الْكَفَّارِ، رَحِيمًا بَرًّا بِالْأَخْيَارِ، غَضُوبًا عَبُوسًا فِي وَجْهِ الْكَافِرِ، ضَحُوكًا بَشُوشًا فِي وَجْهِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً )( التَّوْبَةِ: 123)
قال أبو السعود في تفسيره: والمعنى أنَّهم يُظهرونَ لمن خالفَ دينَهُم الشدةَ والصَّلابةَ ولمن وافقَهُم في الدِّينِ الرحمةَ والرأفةَ.
و قد أمر الله نبيه بالرحمة بالمؤمنين والغلظة على الكافرين فقال تعالى:( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)( آل عمران 159)
وقال:( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)( التوبة 73)
صورة من غلظة الصحابة على الكافرين:
روى مسلم عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذ سيفاً يوم أحد، فقال: من يأخذ مني هذا؟ فبسطوا أيديهم كلُّ إنسان منهم يقول: أنا، أنا، قال: (من يأخذُهُ بحقه؟) فأحجمَ القومُ، فقال سِماكُ بن خَرَشَةَ أبو دجانة: أنا آخذه بحقِّهِ، قال: فأخذه فَفَلَقَ به هَامَ المشركينَ).
وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختالُ عند الحرب إذا كانت، فلما أخذ السيفَ من يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخرج عصابةً له حمراءَ، فَعَصَبَ بها رأسَه، وجعل يتبخترُ بين الصفَّينِ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم :( إنها لمِشيةٌ يُبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن). البداية والنهاية ج5/355، السيرة لابن هشام ج3/23، التاريخ الإسلامي ج2/221
والاختيال صفةٌ مذمومةٌ يُبغضها اللهُ إلا في بعض المواطن فتكونُ محمودةً، قال صلّى الله عليه وسلّم :( وَالِاخْتِيَالُ الَّذِي يُحِبُّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اخْتِيَالُ الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ، عِنْدَ الْقِتَالِ، وَعِنْدَ الصَّدَقَةِ، وَالِاخْتِيَالُ الَّذِي يَبْغُضُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْخُيَلَاءُ فِي الْبَاطِلِ). أخرجه النسائي 2558 وحسنه الألباني.
الاختيال في الصدقة: قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَمَّا الصَّدَقَةُ فَأَنْ تَهُزَّهُ أَرْيَحِيَّةُ السَّخَاءِ فَيُعْطِي طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ فَلَا يَسْتَكْثِرُ كَثِيرًا وَلَا يُعْطِي مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا وَهُوَ مُسْتَقِلٌّ وَأَمَّا الْحَرْبُ فَأَنْ يَتَقَدَّمَ فِيهَا بِنَشَاطٍ وَقُوَّةٍ وَنَخْوَةٍ وَعَدَمِ جُبْنٍ. (حاشية السيوطي على سنن النسائي 5/78)
ومن الرحمة بالمؤمنين:
الاحتراز من التكبر عليهم: فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:(لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ). (رواه مسلم /91) وغمطُ الناس معناه: احتقارُهم وازدراؤُهم. وفي رواية:( وغَمْصُ الناس) يعني الطعنُ عليهم وازدراؤُهم.
وفي رواية:( فلا يراهم شيئاً) فالمتكبرُ ينظرُ إلى نفسهِ بعينِ الكمالِ، وإلى غيره بعينِ النقصِ، ولا يراهم أهلاً لأن يقوم بحقوقهم، ولا أن يقبلَ من أحدٍ منهم الحقَّ إذا أوردَهُ عليه.
فأن ينظر المجاهدُ إلى نفسهِ بعينِ الكمالِ، وإلى غيرهِ بعينِ النقصِ، فلا يقبلُ نصيحةً ولا توجيهاً، ولا اعتراضاً، حتى صدر من بعضهم قولَه:( لا فتوى لقاعدٍ) وبعضُهم قالَ:( لا يفقهُ القرآنَ مثلُ مجاهدٍ) بقصدِ انتقاصِ الناسِ، وعدمِ رؤيتِهم شيئاً، وعدمِ قبولِ الحقِّ منهم، والاعتراضِ على كلِّ من ليسَ في ساحاتِ القتالِ، فهذا غيرُ جائزٍ ولا يليقُ بالمجاهدِ فعلُه، فالجهادُ ليس فقط في ميادينِ القتالِ، بل له ميادينُ عدة، وقد قال الله تعالى:( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)( التوبة 122)
قال ابن عباس:(أي لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا جميعاً ويتركوا النبي صلّى الله عليه وسلّم في المدينة وحده ، فهلا خرج من كل فرقةٍ جماعةٌ وَبَقِي طَائِفَةٌ بِالْمَدِينَةِ لكَي يتعلموا أَمر الدّين من النَّبِي صلّى الله عليه وسلّم ليخبروا وليعلموا {قَوْمَهُمْ إِذَا رجعُوا إِلَيْهِمْ}من غزوتهم لكَي يعلمُوا مَا أمروا بِهِ وَمَا نهوا عَنهُ).
وقال القرطبيُّ:( إِذْ لَوْ نَفَرَ الْكُلُّ لَضَاعَ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ الْعِيَالِ، فَلْيَخْرُجْ فَرِيقٌ مِنْهُمْ لِلْجِهَادِ وَلْيُقِمْ فَرِيقٌ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ وَيَحْفَظُونَ الْحَرِيمَ، حَتَّى إِذَا عَادَ النَّافِرُونَ أَعْلَمَهُمُ الْمُقِيمُونَ مَا تَعَلَّمُوهُ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَمَا تجدد نزول عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم . وَهَذِهِ الآية ناسخة لقوله تعالى:( إِلَّا تَنْفِرُوا ..) [التوبة: 39] وَلِلْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، عَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَابْنِ زَيْدٍ.). (تفسير القرطبي 8 /293)
والأئمةُ الأربعةُ وغيرُهم قد ألَّفوا في أبوابِ الجهادِ وأحكامِه، ولم يكونوا في ساحاتِ القتالِ، فلا غنى للمجاهدينَ عن العلماءِ يوجهونهم وينصحونهم ويفتونهم، ولا عن الداعمينَ ليمدوهم بالسلاحِ والمالِ، ولا عن الإعلاميينَ ليوصلوا كلمتَهم إلى الناس. والقائمةُ تطول، وكلٌّ مجاهدٌ في ميدانِهِ.
2-كتمانُ الأسرارِ:
كتمانُ الأسرارِ يتأكدُ خاصةً فيما يتعلقُ بالجهادِ في سبيلِ اللهِ، إذ إنَّهُ يدخلُ في عمومِ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه قال:( سمَّى النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم الحربَ خُدْعَةً). (رواه البخاري /3029)
وكيفَ تخدعُ عدوَّكَ إذا لم تكتم أسرارَكَ، فعن كعبِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه، قال:( كان رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَلَّما يريدُ غزوةً إلا وَرَّى بِغَيْرِهَا ). (رواه مسلم/2769)
[أَيْ أَوْهَمَ غَيْرَهَا. وَالتَّوْرِيَةُ أَنْ يَذْكُرَ لَفْظًا يُحْتَمَلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَقْرَبُ مِنَ الْآخَرِ فَيُوهِمُ إِرَادَةَ الْقَرِيبِ وَهُوَ يُرِيدُ الْبَعِيدَ] فتح الباري /باب غزوة تبوك ج8/ ص 117.
بل قد يصلُ كتمانُ الأسرارِ إلى إباحةِ الكذبِ إنْ لمْ يكنْ كَتْمُ السِّرِ إلا بذلكَ، (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا). مسلم /2605
- لا تخونوا الله والرسول:
قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)( الأنفال:27)
نزلت هذه الآية في أبي لُبَابَةَ بن عبد المنذر الأنصاري ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة ، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من بني النضير ، على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات وأريحا من أرض الشام. فأبى أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فأبوا ، وقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة ، وكان مناصحاً لهم لأنّ ماله وعياله وولده كانت عندهم ، فبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاهم ، فقالوا : يا أبا لبابة ما ترى ؟ أننزل على حكم سعد بن معاذ ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه : إنه الذبح فلا تفعلوا . قال أبو لبابة : والله ما زالت قدماي حتى علمت أن قد خُنْتُ الله ورسوله، فنزلت فيه هذه الآية .
فلما نزلت شد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي، فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاما حتى خرَّ مغشيا عليه ، ثم تاب الله عليه ، فقيل له : يا أبا لبابة قد تيب عليك ، فقال : لا والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يحلني ، فجاءه فحله بيده ، ثم قال أبو لبابة : إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب ، وأن أنخلع من مالي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يجزيك الثلث أن تتصدق به ). ( أسباب النزول للواحدي).
وقيل أيضاً أنها نزلت في حاطِبِ بنِ أبي بَلْتَعَةَ، الذي أَرْسَلَ رسالةً إلى قريشٍ مع امرأةٍ يُعْلِمُها فيها بأن الرسولَ تجهَّز لغزوِهِم يومَ فَتْحِ مكةَ. والآيةُ عامةٌ
و عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ، وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، قَالَ: فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ، فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَةٍ، قَالَتْ: مَا حَاجَتُهُ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ، قَالَتْ: لَا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أَحَدًا قَالَ أَنَسٌ: وَاللهِ لَوْ حَدَّثْتُ بِهِ أَحَدًا لَحَدَّثْتُكَ يَا ثَابِتُ).( مسلم /2482)
وأم سُلَيمٍ هي أمُّ أنس، رضي الله عنهما.
3- المحافظة على المرافق العامة:
المرافقُ العامةُ هي كلُّ ما يشتركُ فيه عامةُ الناس بالمنفعةِ، من طرقاتٍ، ومدارسَ، ومشافي، ومساجدَ، وحدائقَ، وآبارٍ للنفطِ والمياهِ، وغيرِها.
وهذه المرافقُ مما أُمِرَ المسلمُ بالمحافظة عليها ورعايتها، وبحصول ذلك ينتفع بها جميعُ المسلمين، وبإتلافها تتعطلُ منافعُ الناسِ ويقعونَ في الحرجِ والمشقةِ.
قال تعالى:( وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الأعراف:85)
وقال تعالى عن اليهود:( وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (المائدة: 64)
وقال في سورة القصص:( وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص 77:)
وإفسادُ هذه الممتلكات فيه إيذاءٌ للمسلمينَ،قال تعالى:( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) (الأحزاب: 58)
وقد وردت نصوصُ في السنةِ المطهرةِ على صاحبِها أفضلُ الصلاةِ وأزكى السلام، تُبيِّنُ وجوبَ المحافظةِ على مرافقِ الناسِ وعدمِ أذيتِهم بها، نوردُ منها:
ما رواه أبو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ»، قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ ظِلِّهِمْ).( رواه أبو داود /25 وصححه الألباني).
وعنه أيضاً أن رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ).( النسائي /221، وابن ماجه /344 وصححه الألباني).
وعنه أيضاً أن رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ - شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ). (رواه مسلم/35)
فالاعتداءُ على هذه المرافق اعتداءٌ على كل المستفيدين منها، وكل سيطالِبُ بحقِّهِ من هذا المعتدي يوم القيامة؛ لأنها ليست ملكاً لشخصٍ بعينِهِ.
وفي الجهادِ خاصةً أوردَ ابنُ عساكرَ، والطبريُّ، وابنُ خلدونَ، وابنُ الجوزيِّ، وغيرُهم، أن أبا بكرٍ لما أنفَذَ جيشَ أسامةَ أوصاهم قائلاً:( لَا تَخُونُوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا طِفْلًا وَلَا شَيْخًا كَبِيرًا وَلَا امْرَأَةً، وَلَا تَعْقِرُوا نَخْلًا وَتُحْرِقُوهُ، وَلَا تَقْطَعُوا شَجَرَةً مُثْمِرَةً، وَلَا تَذْبَحُوا شَاةً وَلَا بَقَرَةً وَلَا بَعِيرًا إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ، وَسَوْفَ تَمُرُّونَ بِأَقْوَامٍ قَدْ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الصَّوَامِعِ، فَدَعُوهُمْ وَمَا فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ...).
إلا إذا كان إتلافُ شيءٍ من ذلكَ لابدَّ منه للمجاهدين، ويؤثرُ في العدوِّ، كأن احتاجوا إلى تدميرِ مبنىً يتحصنُ فيه العدوُّ، أو إلى قطعِ أو حرقِ أشجارٍ يختبؤونَ خلفَهَا، أو غيرَ ذلك، فهذه مسألةٌ أخرى.
وقد جاء في البخاري ومسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمرَ بقطعِ نخيلِ بني النضيرِ وحرقِهِا، ونصُّ الحديثِ: عن ابن عمر رضي الله عنهما: ( أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرَّقَ نخلَ بني النضيرِ وَقَطَعَ وهيَ البويرةُ)، فأنزل الله تعالى:(ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين) (الحشر: 5)
(البويرة) موضع نخل بني النضير.
قال ابن حجر في الفتح:( أيْ لِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ إِذَا تَعَيَّنَتْ طَرِيقًا فِي نِكَايَةِ الْعَدُوِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ قَطْعُ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ أَصْلًا، وَحَمَلُوا مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِمَّا عَلَى غَيْرِ الْمُثْمِرِ، وَإِمَّا عَلَى أَنَّ الشَّجَرَ الَّذِي قُطِعَ فِي قِصَّةِ بَنِي النَّضِيرِ كَانَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْقِتَالُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ وَأَبِي ثَوْرٍ).( فتح الباري باب قطع الشجر والنخل ج5/9)
وقد أورد النووي باباً بعنوان:باب جوازِ قطعِ أشجارِ الكفارِ وتحريقِها، وذكر تحتَه: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ قَطْعِ شَجَرِ الْكُفَّارِ وَإِحْرَاقِهِ وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن القاسم ونافع مولى بن عُمَرَ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عنه فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمْ لَا يَجُوزُ). (شرح النووي حديث /1746)
قال في سبل السلام :( وقد ذهبَ الجماهيرُ إلى جوازِ التحريقِ والتخريبِ في بلادِ العدوِّ، وكرهَهُ الأوزاعيُ وأبو ثورٍ واحتجَّا بأن أبا بكر رضي الله عنه وصَّى جيوشَه أن لا يفعلوا ذلك ، وأُجيبَ بأنه رأى المصلحة في بقائِه لأنه قد عَلِمَ أنها تصير للمسلمين فأرادَ بقاءَها لهم.)( سبل السلام ، كتاب الجهاد – إفساد أموال أهل الحرب بالتحريق والقطع 2/475)
وفي غزوة أحد عندما سارَ النبي صلّى الله عليه وسلّم بأصحابِه في مالٍ لِرِبْعِيّ بن قَيْظِيّ ، وفي رواية ابن هشام لِمِرْبِعِ بن قَيْظِيّ ، وكان رجلاً منافقاً ضريرَ البصرِ، فلما أحسَّ برسولِ الله ومن معه من المسلمين قام يحثو في وجوههم الترابَ وهو يقول: إن كنتَ رسولَ الله فلا أحلُّ لكَ أن تدخلَ حائطي، وقد ذُكر أنه أخذَ حفنةً من ترابٍ بيدِهِ ثم قال:
والله لو أعلمُ أني لا أصيبُ بها غيرَك يا محمدٌ لضربتُ بها وجهَكَ، فابتدَرَهُ القومُ ليقتلوهُ، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم :لا تقتلوهُ، فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر. (ابن هشام ج3/21 – البداية والنهاية ج5/ 351 – 352)
أما إتلافُ المرافقِ التي ينتفعُ منها المسلمون وليس فيها تأثيرٌ على العدوِّ فهذهِ مما يحرُمُ العبثُ بها وإتلافُها، وينبغي تقدير المصلحة والمفسدة في ذلك، واللهُ أعلمُ.
7/ربيع الآخر/1436
الموافق لـ 28/1/2015م