1- الناس مفلحون وخائبون
2- صفات النفس البشرية
3- طرق تربية النفس واصلاحها
4- اتهام السلف لأنفسهم
إصلاح النفس أولاً
مقدمة :
إن من أشد ما ينبغي للإنسان العاقل أن يحذره وينتبه له إنما هو خطورة النفس، فينبغي أن يلتفت إلى هذا العدو القريب الذي لايمكن أن ينفع معه علاج إلا بالالتفات إلى المضغة التي ( إذا صلحت صلح الجسد كلّه وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب ) (البخاري: 52-مسلم: 1599).
عناصر الخطبة:
1- المفلحون والخائبون.
2- صفات النفس البشرية.
3- طرق تربية النفس وإصلاحها.
4- اتهام السلف لأنفسهم.
1- الناس مفلحون وخائبون
عندما خلق الله النفس البشرية, خلق معها قوة الاستعداد لفعل الخير والشر, وجعل الإنسان قادراً على استعمال هذا الجهاز الذي أودعه فيه دون أن يكون مسيراً لطريق ما، بل له تمام الاختيار في اختيار المنهج ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) (الشمس : 7-9).
وترتب على هذه الحرية في الاختيار الجزاء أو العقوبة يوم الحساب, وذلك بقوله تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا )، وعلى هذا فإن هذه النفس قابلة أن تتغير إما ناحية الخير أو ناحية الشر, وذلك بمقدار ما ينفق هذا الإنسان من جهد لتغييرها, فالتغيير للأحسن يسمى التزكية، والتغيير للأسوأ يسمى التدسية، ولهذا قال تعالى :
( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ) (النساء: 79).
لأنه باختياره لم يتبع الحق فأصابه الشر..
فالنجاة لأولئك الذين فهموا الغاية من الخلق, وهي العبادة بمفهومها الشامل، وعرفوا في ذات الوقت العوائق التي تعيقهم من تحقيق هذه الغاية, والتي من أبرزها هذه النفس التي بين جوانحهم, فقاموا بتزكيتها وتقويمها حتى ذلت بعد كبرياء, وألفت بعد وحشة, وهدأت بعد هياج, فأصبحوا هم السادة لتلك النفوس يقودونها حيث يريد مولاهم جل جلاله.
أما أولئك الذين جزعوا من هياجها, وذلوا لكبريائها, وخافوا من وحشتها, فأفلتوا لها الزمام, وقبلوا بالعبودية لها, وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا, تقودهم هي حيث تريد من الهوى, فقد خابوا وخسروا الدنيا والآخرة, بعد أن تجاوزت نفوسهم بهم الحدود التي وضعها الله في كتابه, وبينها رسوله في سننه, بإيثارهم الوسائل التي خلقها الله لهم في أمور الدنيا لتعينهم على العبادة ذاتها, فاتخذوا هذه الوسائل آلهة من دون الله ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ) (الفرقان: 43).
فكانت الجحيم مأواهم ودارهم التي سيأوون إليها في آخر المطاف ( فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ) (النازعات: 37-39).
2- صفات النفس البشرية
تتعدد الصفات المتضادة في النفس الواحدة, والمطلوب شرعا أن يربي المسلم نفسه على الصفات الحميدة منها, وأبرز هذه الصفات تلك التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم, والتي منها:
- الأمارة بالسوء:
فالنفس أمّارة بالسوء إلا مارحم الله, والسوء كلمة عامة تشمل كلّ ما يغضب الله تعالى وما نهى عنه، ولذلك يجب الانتباه والحذر لخطورة هذه النفس التي بين جوانحنا؛ لأن الزلل يقع بسبب غفلة الإنسان عن خطورة هذه النفس,
وهذا ما استوعبه أحد الحكماء فقال: ( من توهم أن له وليا أولى من الله قلَّت معرفته بالله، ومن توهم أن له عدواً أعدى من نفسه قلت معرفته بنفسه ).
فينبغي على الإنسان أن يكون على استعداد دائم لأعدائه من البشر, وماخلق الله من شرار الدواب, وألا ينسى الانتباه لأقرب أعدائه إليه ألا وهي نفسه التي بين جنبيه.
قال الله تعالى عن يوسف عليه السلام: ( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (يوسف: 53)
أي لا أزكي نفسي ولا أنزهها, فإن النفس البشرية ميالة إلى الشهوات إلا من تعب في تربيتها فانتقلت بالتربية من الأمر بالسوء الى الأمر بالخير فتتغير طبيعتها الآمرة بالسوء لكثرة التربية إلى طبيعة أخرى وهي اللوم لاقتراف كل مامن شأنه الإبعاد عن رضى الله تعالى واللوم على التقصير في فعل الخير.
- اللوامة:
يقول تعالى: ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) (القيامة: 1-2).
قال الحسن البصري في هذه الآية: ( إن المؤمن والله ما نراه إلا يلوم نفسه يقول : ما أردتُ بكلمتي؟ ما أردتُ بأكلتي؟ ما أردتُ بحديث نفسي؟ وأما الفاجر يمضي قدماً ما يعاتب نفسه ). (تفسير ابن كثير: 8/ 275).
" فهذه النفس اللوامة المتيقظة التقية الخائفة المتوجسة التي تحاسب نفسها, وتتلفت حولها, وتتبين حقيقة هواها, وتحذر خداع ذاتها, هى النفس الكريمة على الله, حتى ليذكرها مع القيامة, ثم هي الصورة المقابلة للنفس الفاجرة, نفس الإنسان الذي يريد أن يفجر ويمضي قدماً في الفجور, والذي يكذب ويتولى ويذهب إلى أهله يتمطى, دون حساب لنفسه ودون تلوم أو مبالاة " (في ظلال القرآن 6/ 3768).
ولقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم والذي ينبغي أن يذكره كل مسلم صباحا ومساء قبل أن يأوي إلى فراشه ليستشعر دائما شر نفسه: ( أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه ) (رواه أحمد: 6852 وصححه الألباني).
فطلب المعونة للوقوف أمام نفسه هو أول ما يلجئه إلى الله، وإذا ما استمر الإنسان على الالتزام بهذه الصفة ,وهي صفة اللوم لنفسه فإنها توصله إلى صفة أخرى كنتيجة طبيعية لالتزامه بصفة اللوم ألا وهي الطمأنينة.
- المطمئنة:
قال الله تعالى : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي ) (الفجر: 27-30).
يقول الإمام القرطبي:( النفس المطمئنة هي الساكنة الموقنة التي أيقنت أنه الله ربها فأخبتت لذلك، قاله مجاهد وغيره). (تفسير القرطبي: 20/57).
هذه النفس: "هي المطمئنة في السراء والضراء, وفي البسط والقبض, وفي المنع والعطاء, فلا ترتاب ولا تنحرف, ولا تتلجلج في الطريق، ولاترتاع في يوم الهول الرعيب" (في ظلال القرآن: 6/3907).
وأنى يكون لها تلك الصفات لولا المحاسبة الدائمة لكل لفظة أو خطره, أو لحظة أو خطوة؟! فإن هذا اللوم الدائم يعدِّلُ من مسارها حتى تستقر على الصراط المستقيم, فلا تؤثر فيها رياح الفتنة, وزينة الدنيا، وشدة البلاء، وتسويل الشيطان، فإنها تهزأ بذلك كله بطمأنينة المؤمن الموقن بقدر الله تعالى والمستسلم لإرادته عزوجل.
3- طرق تربية النفس واصلاحها
أ- لابدّ من رسوخ الإيمان في القلب قبل إصلاح النفس:
لقد كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تحدث الناس بأوائل ما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في أوائل دعوته في الإسلام.
قالت وهي تتكلم عمّا كان ينزله ربنا عزوجلّ في تلك الأحوال, لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يمرّ ببلال وهو يعذب، ويمرّ بخبّاب وهو ملقىً على الجمر الحار، ويمرّ بسمية وزوجها وقد رُبِطا على جذع نخلة،
تقول السيدة عائشة : ( إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا..) (البخاري: 4993).
نعم بعد أن ثاب الناس إلى الإسلام نزل الأمر بالجهاد في سبيل الله، والأمر ببذل النفس والمال وترك الولد والأهل لنصرة دين الله عزوجل، ونزلت الشرائع من صلاة وصوم وزكاة وحج وغير ذلك.
إن ربنا سبحانه وتعالى لما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم كان ربنا قادراً على أن يبعث معه ملائكة يلزمون الناس بالإيمان بالله عزوجل
ولمَّا كان أمية بن خلف يرفع السوط على بلال كان ربنا قادراً على أن يشلّه كما أنه قادر على أن يشل تلك اليد التي كانت تعذب بلالاً.
ألم يكن الله رحيما بسمية وزوجها ياسر؟ ألم يكن ربنا عز وجل يسمع دعاءهم؟ ويرى دموعهم تجري على خدودهم؟ ويسمع أناتهم؟ ويرى نبيّنا عليه الصلاة والسلام يمرّ بهم وهو يصبرهم وربنا جلّ وعلا قادر أن يأمر السماء فتمطر ويأمر الأرض فتنشق بمن شاء من أولئك الكافرين؟
ومع ذلك يقول ربنا جلّ وعلا لنبينا صلى الله عليه وسلم في تلك الأحوال:
أن يقول لأبطال الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وغيرهم من الصحابة الكرام الذين تتشوق نفوسهم إلى القتال بالقوة والعتاد وإنقاذ خباب وغيرهم. يقول الله تعالى عنهم: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا )(النساء: 77).
كفوا أيديكم: أي أصلحوا علاقتكم بربكم، ومكنوا الإيمان في قلوبكم، حتى تتحملوا بعد ذلك قيادة الأمّة.
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (المائدة: 105).
ولمّا انتصر النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، وظهر الإسلام، ثمّ أقبل الكافرون لقتال المؤمنين في معركة أحد, وخرج المؤمنون إليهم وهم في نشوة نصر لم يمض عليه سنة, ولمّا تخاذل المنافقون ورجعوا عن الجيش المسلم منشقين عنه، بعدما وصل إلى أحد لم يجد المسلمون في أنفسهم خوفاَ ولارعبا من الكافرين، ولا من قلة عددهم، فإنهم قد انتصروا من قبل رغم قلة عددهم ، فهاهم اليوم يأتون مستعدين, فإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يرتب أصحابه في أول المعركة، فيأمر بعض أصحابه بأن يصعدوا إلى جبل أحد – يأمر سبعين رجلا من أصحابه – ويقول لهم: لا تتركوا مكانكم مهما كانت النتيجة لاتنزلوا إلينا حتى يأتيكم الأمر مني وإن رأيتمونا هزمنا فلا تنصرونا حتى وإن رأيتمونا تتخطفنا الطير.
ولما بدأ القتال ونصر الله المؤمنين في أوائل المعركة وكان الأمر كما وصفه بعض الصحابة:
والله ما لبث الكافرون بين أيدينا إلا بقدر فواق ناقة, وهي المدة الزمنية القصيرة بين الحَلْبَتين.
وهنا ترك الرماة مكانهم ولم يبق إلابعض الصحابة الذين لم يتجاوز عددهم أصابع اليدين.
حيث قام الكافرون بعملية التفاف فأصبح المسلمون بين فكي كماشة فأصبح عدو من أمامهم وعدو من خلفهم.
وهنا هزم المسلمون ووصف الله هذه الحال بقوله :
( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (آل عمران: 152).
إنما كانت هذه الهزيمة وهذا القتل وهذه الجراح كانت تأديبا للمؤمنين وإصلاحا لنفوسهم، حتى تعلموا أن طاعتكم لله وتعبدكم لله هو سبب النصر، وأما إن خالط ذلك شيئ من حظ النفس فإن مآلكم الهزيمة وجزاؤكم كما بين الله عزوجل ذلك بقوله:
( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (آل عمران: 165).
حيث هزمتم وقتل منكم سبعون .أنتم الذين قصرتم في علاج أنفسكم وفي التعامل معها.
أيها المسلمون:
إنّ ماأصابنا اليوم من قتل وتشريد مما تتفطر له الأكباد حزناً وكمداً وكلنا يتألم لهذا الوضع المأساوي وينسى أن شرط إصلاحنا لأنفسنا وإصلاح المسلمين لأنفسهم، والنظر إلى موضع الخلل والاعوجاج هو سبب النصر الذي يأتي من عند الله .
ب- الخوف من الله سبب نقاء النفوس:
إن السبب الرئيسي في نجاح السلف الصالح في تربية نفوسهم هو الخوف من الله الجليل،
الخوف من اطلاع الحق الدائم عليهم بكل لفظة ولحظة وخطوة وخاطر،
الخوف من اللحظة الأخيرة هل تكون خاتمة خير أو شر؟
الخوف من عدم قبول المولى لأعمالهم: ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ) (المؤمنون: 60).
الخوف مما سيحدث لهم في حياة البرزخ ويوم الحساب،
( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ) (النازعات: 40).
أورد الإمام القرطبي قول مجاهد تعليقا على هذه الآية (هو خوفه في الدنيا من الله عز وجل عند مواقعة الذنب فيقلع ) لأن نهي النفس عن الهوى يعني زجرها عن المعاصي والمحارم .
فالخوف هو الذي دفعهم لنهي النفس عن الهوى والخوض في معارك مستمرة معها لتذليلها وتحويلها من نفس أمارة بالسوء إلى نفس مطمئنة ولوامة.
ولاشك أن جيل الصحابة كان من أخوف الناس لله عز وجل، وكانوا هم القمة في كل خير، وهم خير من عرف الطريق لتربية النفوس ولقد تركوا لنا إرثا كبيراً من فنون التربية لم يكن على هيئة المدونات والمخطوطات بل كان بمثابة النماذج البشرية التي قاموا بتربيتها على تلك الأصول التربوية التي استمدوها من أتقى الناس وأعبدهم وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ت- الإيمان بالحساب واليوم الآخر دافع كبير إلى إصلاح النفس:
السماء أيضا شاهدة، تراقب أعمالك، بل الكون كله يراقب أعمالك، بل هناك شاهد آخر، ملائكة كرام كاتبون لا شغل لهم في هذه الحياة إلا مرافقتك من حيث لا تراهم يكتبون الحسنات والسيئات، يقول الله تبارك وتعالى: ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) (الانفطار: 10-12)
ويقول: ( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (ق: 18).
فهؤلاء يدونون كل شيء تفعله.
ويقول: ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) (يس: 12)، فيا أيها الإنسان، لا تتخيل أنك تعيش بمفردك، فمعك حراس يكتبون تفاصيل أعمالك التي تعملها.
وليس الملائكة فقط ولا الأرض فقط ولا الكون فقط، بل أنت أيضا تشهد على نفسك، يقول الله عز وجل: ( حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (فصلت: 20)،
ويقول: ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (النور: 24)،
فهذه اليد التي ترتكب بها ما ترتكب هي نفسها تقف يوم القيامة وتتحدث بما صنعت وبما فعلت، وهذه العين التي نظرت بها هي نفسها التي تتكلم بما رأت، وهذه الأذن التي سمعت بها هي نفسها تنطق بما سمعت، وهذه الرجل التي مشيت عليها، هذا اللسان الذي نطقت به.
إذاً أول ما جاء الإسلام جاء ليقول للناس: ياعباد الله أنتم تحت بصر الله وسمعه، فالأرض التي نسير عليها ترانا والسماء ترانا والملائكة ترانا وأسماعنا وأبصارنا وجلودنا وأيدينا وأرجلنا، وفوق هذا كله، الله عز وجل، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، الله .. يعلم السر وأخفي.. فأين تهرب منه؟
عن أنس بن مالك، قال: ( كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: «هل تدرون مم أضحك؟» قال قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: " من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، قال فيقول: بعدا لكن وسحقا، فعنكن كنت أناضل ) (مسلم: 2969).
ويجد العبد شهادة الجلد مليئة بالتفاصيل المثيرة، فيقول لجلده: ( لم شهدتِ عليّ )؟ ( وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) (فصلت: 21).
بهذه العقيدة .. جاء ليقول للناس: أيها الناس، أنتم لم تخلقوا عبثا ولن تتركوا سدى.
ث- مكابدة النفس:
حيث يقول النبي صلى اله عليه وسلم: ( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ) (مسلم: 2822).
فيشبه النبي صلى الله عليه وسلم الجنة وكأنها مغطاة بحجب وهذه الحجب ليس من الجلد أو الحرير ولكنها من المكاره وهي أغطية كثيرة بألوان مختلفة فلكل مصيبة لون ولا يمكن للمؤمن الوصول للجنة حتى يخترق هذه الحجب جميعها، وعملية الاختراق هذه : هي ذاتها عملية المكابدة لهذه النفس.
ج- الدعاء:
وهومن أبرز الطرق التي تزكي النفس، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول :( الدعاء هو العبادة ) (أحمد: 8749 وصححه الألباني).
والدعاء كجهاز الشحن الذي يشحن القلب دائما بالقوة والرقة، وهو جزء من الذكر الذي يذكِّر الإنسان بخالقه وبضعفه البشري وبأعدائه الذين بين جوانحه، ومن بينهم هذه النفس الأمارة بالسوء.
4- اتهام السلف لأنفسهم
وأخيرا: لو عدنا إلى سلفنا الصالح لوجدناهم حاسبوا أنفسهم واتهموها على كل خطأ وقعوا به، وكانت محاسبتهم دائمة ولعلنا نذكر بعضا منهم:
فهذا أحد التابعين محمد بن واسع رحمه الله كان يقول لمن يحضر درسه حيث كانوا بالمئات :إنني أحمد الله الذي لم يجعل للذنوب رائحة ,فلو كان لها رائحة ما استطاع أحد منكم أن يجلس إلي.
وهذا أبو سليمان الداراني رحمه الله يسأله أحمد بن الحواري فيقول له: إن فلانا وفلانا لا يقعان على قلبي قال: ولا على قلبي ولكن لعلنا أُتِينا من قلبي وقلبك فليس فينا خير، ولسنا نحب الصالحين.
وهذا أبو مسلم الخولاني: كان على زمن معاوية وقد قحط الناس يوما فقال له معاوية: ترى ما أصاب الناس فادع الله، قال أفعل على تقصيري! فقام وعليه رداء فكشف الرداء عن رأسه ثم رفع يديه فقال: اللهم إنا بك نستمطر وقد جئت بذنوبي إليك فلا تخيبني فما انصرفوا حتى سقوا، فقال أبو مسلم: اللهم إن معاوية أقامني مقام سمعة فإن كان لي عندك خير فاقبضني إليك وكان ذلك يوم الخميس فمات أبو مسلم رحمه الله تعالى في الخميس الذي بعده.
فهو يخشى أن ينتشر بين الناس أنهم أمطروا بدعاء أبي مسلم، ويفضل الموت خشية العجب بنفسه بسبب هذه السمعة.
إنّ لإصلاح النفس وتربيتها تربية إيمانية نتائج مثمرة يانعة ، ومن أهم هذه النتائج إصابة خيري الدنيا والآخرة، وحبّ الله ومعيته، والبشارة عند الموت، والنجاة من العذاب، وإقبال الخلق عليه، والتخلص من المألوفات والعوائد وغير ذلك من الثمار الطيبة..
فلنحاسب أنفسنا يا عباد الله قبل أن نُحاسَب، وليتهم كل واحد منا نفسه بأن تأخير النصر اليوم بسبب ذنوبه ومعاصيه، وليبادر إلى إصلاح نفسه وإصلاح غيره ما استطاع إلى ذلك سبيلا.