1- سنة التعب وبناء البلد
2- اقتحام المشاق للذود عن البلد
3- صفة أهل البلد
وقفات مع سورة البلد
المقدمة:
بعد مرور أكثر من خمس سنوات على انطلاق ثورتنا الأبيّة المباركة ربما أصيبت الأبدان والنفوس بالإرهاق والتعب، وبدأت تتململ لطول المدة، وتتأوه من كثرة المصائب والمتاعب، وتتلوى من شدة الألم، وربما وصل الأمر ببعضهم إلى القنوط واليأس، وهذا لا ينبغي أن يكون.
هيا بنا عباد الله نعيش في رحاب سورة من سور القرآن الذي ابتعدنا عنه كثيراً؛ كي نرى سوياً كيف هي سنة الله في الابتلاء وفي البناء، عسى أن تكون مثبتة لنا لنصل إلى غايتنا.
1- سنة التعب وبناء البلد
قال الله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 1-4].
أقسم الله تعالى أن الإنسان خلق في مكابدة ومشقة، وجهد وكد، وكفاح وكدح، إذ تبدأ رحلة المشقة في حياة الإنسان من الخلية الأولى حين تستقر في الرحم لتبدأ معها مسيرة الكبد والكدح، لتوفر لنفسها الظروف الملائمة للحياة والغذاء بإذن ربها، وما تزال كذلك حتى تنتهي إلى المخرج، فتذوق من المخاض إلى جانب ما تذوقه الوالدة من ألم،
وما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون قد ضغط ودفع حتى يكاد يختنق في مخرجه من الرحم، ومنذ هذه اللحظة يبدأ الجهد الأشق والكبد الأمر، يبدأ الجنين ليتنفس هذا الهواء الذي لا عهد له به، ويفتح فمه ورئتيه لأول مرة ليشهق ويزفر في صراخ يشي بمشقة البداية،
وتبدأ دورته الهضمية ودورته الدموية في العمل على غير عادة، ويعاني في إخراج الفضلات حتى يروض أمعاءه على هذا العمل الجديد، وكل خطوة بعد ذلك كبد، وكل حركة بعد ذلك كبد. والذي يلاحظ الوليد عندما يهم بالحبو وعندما يهم بالمشي يدرك كم يبذل من الجهد العنيف للقيام بهذه الحركة الساذجة. وعند بروز الأسنان كبد. وعند الخطو الثابت كبد. وعند التعلم كبد. وعند التفكر كبد. وفي كل تجربة جديدة كبد. ثم تفترق الطرق، وتتنوع المشاقّ، هذا يكدح بعضلاته، وهذا يكدح بفكره، وهذا يكدح بروحه، وهذا يكدح للقمة العيش وخرقة الكساء، وهذا يكدح ليجعل الألف ألفين وعشرة آلاف . . وهذا يكدح لملك أو جاه، وهذا يكدح في سبيل الله، وهذا يكدح لشهوة ونزوة، وهذا يكدح لعقيدة ودعوة، وهذا يكدح إلى النار، وهذا يكدح إلى الجنة . . والكل يحمل حمله ويصعد الطريق كادحاً إلى ربه فيلقاه! وهناك يكون الكبد الأكبر للأشقياء، وتكون الراحة الكبرى للسعداء. إنه الكبد طبيعة الحياة الدنيا، تختلف أشكاله وأسبابه، ولكنه هو الكبد في النهاية، فأخسر الخاسرين هو من يعاني كبد الحياة الدنيا لينتهي إلى الكبد الأشق الأمرّ في الأخرى، وأفلح الفالحين من يكدح في الطريق إلى ربه ليلقاه بمؤهلات تنهي عنه كبد الحياة، وتنتهي به إلى الراحة الكبرى في ظلال الله. [في ظلال القرآن]
2- اقتحام المشاق للذود عن البلد
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الانشقاق: 6-15].
ومن إشارات هذه الآية:
- الأجر على قدر التعب والكبد: ففي الحديث الصحيح: (قالتْ عائشةُ رضي اللهُ عنها : يا رسولَ اللهِ، يَصدُرُ الناسُ بنُسُكَينِ وأَصدُرُ بنُسُكٍ ؟ فقيل لها : انتَظِري، فإذا طَهُرتِ فاخرُجي إلى التَّنعيمِ فأهِلِّي، ثم ائتينا بمكانِ كذا، ولكنَّها على قدْرِ نفقتِك أو نَصَبِك). أي :ثواب عمرتك على قدر تعبك.
- المشقة اختبار من الله، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].
- المتاعب والمشاق والمحن تجلب معها التيسير والمنح، ففي الحديث الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجبًا للمؤمنِ لا يقضي اللَّهُ لَهُ شيئًا إلَّا كانَ خيرًا لَهُ). وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجبًا لأمرِ المؤمنِ . إن أمرَه كلَّه خيرٌ . وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمنِ . إن أصابته سراءُ شكرَ . فكان خيرًا له . وإن أصابته ضراءُ صبر . فكان خيرًا له).
- تشير سورة البلد وهي تتحدث عن التعب أن بِناء البلد وتشييده يحتاج إلى تعب وكبد مع كره في خوض غمار القتال للذود عن البلد.
- وتشير سورة البلد وقد جاء قبلها سورة الفجر وبعدها سورة الشمس، أن البلد بناؤه بحاجة إلى العمل الجاد من أبنائه منذ الفجر الباكر، وبذل العرق تحت أشعة الشمس، رغم ما في ذلك من كبد.
لقد كابد صحابة رسول الله مع نبيهم أشد المكابدة وواصلوا الليل بالنهار من أجل عمارة الأرض بدين الله، بذلوا الغالي والنفيس، وتركوا أموالهم وديارهم، وبعضهم ترك أهله، وأمضوا هذه الحياة في تعب يتلوه تعب، حتى لاقوا ربهم، وما شكى أحد منهم يوماً، وما سئموا العمل، ولا ملُّوا من طول المدة، ذلك لأنهم علموا أن المدة في هذه الحياة قصيرة مهما طالت، وهاهم بالفعل لاقوا ربهم وارتاحوا من عناء هذه الدنيا ليرتاحوا أبد الأبد في جنة عالية بجوار الفرد الصمد.
وهذا السعي في بناء البلد ربما يدفعنا إلى الخوض واقتحام المشاق والصعوبات والعقبات، {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:11]. بدأ من الجهاد في سبيل تحرير أرض البلد من الطغاة والبغاة والغلاة والمعتدين، إلى بناء مرافق البلد وحضارته، قال الشاعر:
ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
فبغير اقتحام المشاق لن نصل إلى بناء البلد، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خاض الغمار في الغزوات لتحرير البلد فقُتل عمه وأصحابه وهو يقتحم تلك الغمار، ولاقى العقبات والمصاعب، وفي قلب المعركة وهو المطلوب الأول يكشف اللثام عن وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم ويقول: (أنا النبيُّ لا كذِبَ ، أنا ابنُ عبدِ المُطَّلِبِ).
ليس هذا فحسب بل خاض غمار المتاعب في بناء مرافق البلد أيضا، فحمل الحجارة مع أصحابه لبناء المسجد، وهم يرتجزون:
اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
فهلا خضنا الغمار كما خاضوا، وهلا بذلنا الجهد كما بذلوا.
3- صفة أهل البلد
تعرض سورةُ البلد صورةَ أهلهِ المحبوبةِ عند الله، وأنهم ساعين في الخيرات، من إعتاق الرقاب، وقضاء حاجات الفقراء والأيتام والمساكين، قال تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 11- 16].
إن عمارة البلد تحتاج سعينا فيما يحب ربنا من إطعام الجائعين، والمساكين، وسعينا في فك رقاب المسجونين، وكسر الحصار عن المحاصرين. فهذا الأفعال عمارة لبلدنا وزاد لنا حتى ننجو من عقبات الآخرة، وتنعتق رقابنا من النار.
وختام صفات أهل البلد المحبوبين عن الله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}
إيمان يجمع أهل البلد ويربطهم بأوثق رابطة، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وتواص بالصبر على المتاعب حتى نصل إلى بناء البلد، وتواصوا بالمرحمة في التعامل مع الناس حتى يزدهر هذا البلد، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
اللهم نسألك، بكلماتك في سورة البلد، أن تحرر بلدنا من رجس الأرجاس والأنجاس، وأن تحرر معتقلينا من سجون الطغاة الأوباش، وأن تردنا إلى دينك والمسلمين ردا حسنا جميلا، اجعلنا من أهل الصبر، واجعلنا من الرحماء، والحمد لله رب العالمين.