الخميس 19 جمادى الأول 1446 هـ الموافق 21 نوفمبر 2024 م
من أخلاقنا: تراحمنا بيننا
الاثنين 18 ذو الحجة 1437 هـ الموافق 19 سبتمبر 2016 م
عدد الزيارات : 4511
من أخلاقنا: تراحمنا بيننا
عناصر المادة
1- فقدان خلق الرحمة والتراحم من سمات الجاهلية
2- الرحمة والتراحم أصل من أصول رسالات الرسل
3- في طوايا الظلم والظلمات تنتكس معاني الرحمة والتراحم
4- الرحمة والتراحم في أعظم صورها لدى سلف الأمة
مقدمة:
في طوايا الظلم والظلام تَدرُس الأخلاق كما يدرس وشي الثوب، لقد طغى طوفان المادة الجافة، فأغرق جسومَ الرحمة إلا ما انملص منه، بل قد غدت من الحكم عند الكثير لما نُكست موازينهم قولهم : إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب، وإن لم تجهل يُجهل عليك، وإن لم تتغدى بزيد تعشى بك إن الناس لازالوا بخيرما حكمتهم معاني الرحمة والشفقة، والتواد والتعاطف، تحت ظل الإسلام الوارف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مَثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم ، مَثلُ الجسدِ . إذا اشتكَى منه عضوٌ ، تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى) صحيح مسلم .
1- فقدان خلق الرحمة والتراحم من سمات الجاهلية
أيها المسلمون: الأخلاق المثلى عماد الأمم وقوام الشعوب، وهي باقية ما بقيت أخلاقهم، و تدهور الأخلاق ناجم عن نقص الوازع الديني في النفوس، والوازع الديني الزاجر .
وإن من أعظم الأخلاق المندوبة، والسجايا المطلوبة، خلق الرحمة والتراحم بين المسلمين، ولا غرو؛ إذ هو مفتاح القبول لدى القلوب، ولا جرم أنّ فقدان الرحمة بين الناس فقدانٌ للحياة الهانئة، وإحلالٌ للجاهلية الجهلاء، والأثرة العمياء. 
ولقد نالت الجاهليةُ من الرحمة أقسى منال، حتى وكأنما وأَدتها في مهدها، ولقد كشف الله في كتابه عن فئات من الناس والأمم، ممن فقدوا الرحمة، وكأنما قُدَّت قلوبُهم من صخر صلد.
 تمثلت هذه الغِلظةُ والقسوةُ في أصحاب الأخدود الذين أضرموا النيران، وخدوا الأخاديد في أفواه السكك، وجنبات الطريق، وكان ذلك حينما آمن الناس بما جاء به الغلام المؤمن، فكان من لم يرجع عن دينه يُقحَم في النار، حتى لا يرى إلا فحمةً أو رماداً.
{قُتِلَ أَصْحَـٰب ٱلأُخْدُودِ * ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِٱلْحَمِيدِ} [سورة البروج: 4-5-6-7].
 ولقد جاءت امرأةٌ ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع في النار، فقال لها الغلام: "يا أمَّاه اصبري فإنَّكَ علَى الحقِّ" رواه مسلم 3005 من حديث صهيب بن سنان
لقد كشف الله في كتابه عمن فقد الرحمة وانقض عليها، فلم يرعَ حق أُم ولا رضيع، ولم يدع صغيراً ولا كبيراً في عافية {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى ٱلأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيىِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ} [سورة القصص: 4].
{وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ * ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ} [سورة الفجر: 10-14].
قال أبو هريرة رضي الله عنه: "أوتدَ فرعونُ لامرأته أربعة أوتاد، ثم جعل على ظهرها رحاً عظيمةً حتى ماتت {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَـٰمَـٰنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَـٰطِئِينَ}، {وَجَعَلْنَـٰهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَيَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ لاَ يُنصَرُونَ}" أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد، والبويصيري في إتحاف الخيرة من رواية أسلم القبطي أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم
2- الرحمة والتراحم أصل من أصول رسالات الرسل
أيها المسلمون: إن الله جل وعلا حينما بعث رسله جعل تمكين الأخلاق الفاضلة في النفوس أصلاً من أصول رسالاتهم، وأساساً من أسس دعواتهم.
بل إن ذلك سمةً وميزةً واضحةً لخاتمِ الأنبياء والمرسلين حيث قال فيه ربه {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
 وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مكارم الأخلاقِ) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد من حديث أبي هريرة
لقد تجلت رحمة المصطفى صلى الله عليه وسلم، في جوانب كثيرة من حياته، حتى لقد أصبحت سمةً بارزةً، لا يحول دونها ريبةُ أو قَتَرٌ، في كل شأن من شئونه، فهو عطوفٌ رحيمٌ، أرسله إلى البشرية رحمنٌ رحيمٌ.
أخرج مسلم في صحيحه أن رسول الله  تلا قول الله: {رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ ٱلنَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}  وتلا قول عيسى عليه السلام: {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ}. فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال: (اللهمَّ ! أُمَّتي أُمَّتي وبكى . فقال اللهُ عزَّ وجلَّ : يا جبريلُ ! اذهب إلى محمدٍ، - وربُّكَ أعلمُ -، فسَلهُ ما يُبكيكَ ؟ فأتاهُ جبريلُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فسَألهُ.فأخبرهُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بما قالَ . وهو أعلمُ . فقال اللهُ : يا جبريلُ ! اذهبْ إلى محمدٍ فقلْ : إنَّا سنُرضيكَ في أُمَّتكَ ولا نَسُوءُكَ) مسلم 202 من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
لقد تجلت رحمة المصطفى بأمته في صور جليلة ونماذج راقية، حتى بلغت تعليم الجاهل، وتوجيه الغافل، ومناغاة العيال والصبيان.
 أقسمت إحدى بناته صلى الله عليه وسلم ليأتينها لأجل ابنٍ لها قُبض، فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرفع إلى رسول الله الصبي ونفسه تتقعقع، ففاضت عيناه فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ قال: (هذه رحمةٌ جعَلها اللهُ في قُلوبِ عِبادِه، وإنما يَرحَمُ اللهُ من عِبادِه الرُّحَماءَ)  البخاري 1284، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.
إن رحمة المصطفى صلى الله عليه وسلم لم تقف عند هذا الحد فحسب، بل لقد حوت رحمته طبقات المجتمع كلها، أراملَ وأيتاماً، نساءً ومساكينَ، صغارا وكبارا، ولم يقتصر ذلك على فعله، بل عداه بقوله: (الرَّاحمونَ يرحمُهُمُ الرَّحمنُ . ارحَموا من في الأرضِ يرحَمْكم من في السَّماءِ) الترمذي 1924 من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وهو حسن صحيح.
وقال: (إنه من لا يَرحم لا يُرحم) أخرجه مسلم 1318، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال في التحذير من الإشقاق على الناس، وعدم الرحمة لهم: (اللهم من وليَ من أمرِ أمتي شيئًا فشقَّ عليهم ، فاشقق عليهِ . ومن ولىَ من أمرِ أمتي شيئًا فرفقَ بهم ، فارفقْ بهِ) أخرجه مسلم 1828 من حديث عائشة رضي الله عنها.
لقد تجلت رحمة المصطفى صلى الله عليه وسلم بالخلق، فتعدت نطاق البشرية إلى نطاق الحيوانات العجماوات، فلقد (دخلَ حائطًا لرَجُلٍ مِن الأنصارِ فإذا جَملٌ، فلَمَّا رأى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ حنَّ وذرِفَت عيناهُ، فأتاهُ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فمَسحَ ذِفراهُ فسَكَتَ، فقالَ: مَن ربُّ هذا الجَمَلِ، لمن هذا الجمَلُ؟ فَجاءَ فتًى منَ الأنصارِ فَقالَ: لي يا رسولَ اللَّهِ فَقالَ: أفلا تتَّقي اللَّهَ في هذِهِ البَهيمةِ الَّتي ملَّكَكَ اللَّهُ إيَّاها؟ فإنَّهُ شَكا إليَّ أنَّكَ تُجيعُهُ وتُدئبُهُأخرجه أبو داود 1549 من حديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.
فيا لله العجب! حتى البهائم ألهمت أن الرسول صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ رحمة الله مهداة، وأنه نبي المرحمة. 
3- في طوايا الظلم والظلمات تنتكس معاني الرحمة والتراحم
أيها المسلمون: في طوايا الظلم والظلام تَدرُس الأخلاق كما يدرس وشي الثوب، لقد طغى طوفان المادة الجافة، فأغرق جسومَ الرحمة إلا ما انملص منه، بل قد غدت من الحكم عند الكثير لما نُكست موازينهم قولهم : إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب، وإن لم تجهل يُجهل عليك، وإن لم تتغدى بزيد تعشى بك!!. 
ما أشده مضضاً ما تعانيه أمتنا اليوم! إن أمرها ليذهب فرطاً، وإن الغفلة قد بلغت من الناس مبلغ من يظن أنه حي في الحياة، فلا تجد إلا قلباً وصدر أو حراً .
لقد مضى عهد السلف الصالح، فسخفت الحياة من بعدهم، وصاروا ككتب قد انطوت على حقائقها، وخُتمت كما وضعت، لا يستطيع أحدٌ أن يُخرج للناس من حقيقتهم نصفَ حقيقةٍ، ولا شبهَ حقيقة !
ولقد أثبتوا بتجلي الرحمة في قلوبهم، بأنه ليس في نفوسهم وطباعهم إلا الإخلاص، وإن كان حرماناً؛ وإلا المروءةَ وإن كانت مشقة؛ وإلا محبةً الصادقين وإن كانت ألماً؛ وإلا الجِدَّ وإن كان عناءً؛ وإلا القناعةَ وإن كانت فقراً. 
4- الرحمة والتراحم في أعظم صورها لدى سلف الأمة
أيها المسلمون: لقد كان سلفكم الصالح خيرَ من ترجم معاني الرحمة إبَّان عيشهم.
 فها هو الصديق أبو الصديقة، خليفة رسول الله صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، وثاني اثنين إذ هما في الغار، الذي جبل نفسه على الرحمة والتراحم منذ نعومة أظفاره، وما سمي بالعتيق إلا لكثرة ما يُعتق من العبيد رحمة بهم، وإنقاذاً لهم من سطوة غلاظ الأكباد وشرار الخلق، فكان يتعاهد امرأة عمياء في المدينة، يقضي لها أشغالها سراً إبان خلافته للمسلمين؛ كما أنه كان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع بالخلافة، قالت جارية منهم: الآن لا يحلب لنا منائح دارنا. فسمعها فقال: بلى لأحلبنها لكم، وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه. 
ولقد بلغت الرحمة أوج صورها في الخليفة الفاروق، الذي بلغ من القسوة والغلظة في جاهليته أعظمها، فلما ذاق طعم الإيمان انقلبت نفسه رأساً على عقب، وكأنه لم يكن قط قاسي النفس، غليظ القلب!  فلما ولي الخلافة خطب الناس مطمئنا لهم قائلا: 
"اعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدا يظلم أحدا، أو يعتدي عليه، حتى أضع خده وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق، وإني بعد شدتي تلك، أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف" فرحم الله عمر الفاروق ورضي عنه وعن الصحابة أجمعين. 
إن الناس لازالوا بخير ما حكمتهم معاني الرحمة والشفقة، والتواد والتعاطف، تحت ظل الإسلام الوارف، (مَثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم ، مَثلُ الجسدِ . إذا اشتكَى منه عضوٌ ، تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى) أخرجه البخاري 6011 من حديث النعمان بن بشر رضي الله عنه.
أيها المسلمون: إنما هيبة الإسلام في الرحمة بالنفس لا بالمال، وفي بذل الحياة لا في المعكِّ فيها؛ وفي أخلاق الروح لا في أخلاق اليد، وفي وضع حدود الفضائل بين الناس لا في وضع حدود الدراهم، وفي جعل أول الثروة الرحمة والشفقة، لا الذهب والفضة، هذا هو الإسلام الذي غلب الأمم؛ لأنه قبل ذلك غلب القسوة والجشع. 
 
1 - صحيح مسلم
2 - رواه مسلم 3005 من حديث صهيب بن سنان
3 - أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد، والبويصيري في إتحاف الخيرة من رواية أسلم القبطي أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم
4 - أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد من حديث أبي هريرة
5 - مسلم 202 من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
6 - البخاري 1284، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.
7 - الترمذي 1924 من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وهو حسن صحيح.
8 - أخرجه مسلم 1318، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
9 - أخرجه مسلم 1828 من حديث عائشة رضي الله عنها.
10 - أخرجه أبو داود 1549 من حديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.
11 - أخرجه البخاري 6011 من حديث النعمان بن بشر رضي الله عنه.
دور الخطباء في سوريا ؟!
دور فعال ومؤثر (صوتأ 120) 81%
غير فعال (صوتأ 27) 18%
لا أدري (صوتأ 2) 1%
تاريخ البداية : 26 ديسمبر 2013 م عدد الأصوات الكلي : 149