1- صور من عدم المحاباة من الهدي النبوي
2- تطبيق عدم المحاباة وحاجتنا إليه
مقدمة:
إن من خصائص الإسلام الكبرى، وسماته الأساسية العظيمة، هي أنه دين لا يعرف التمييز في أحكامه بناء على اختلاف اللون أو العرق أو البلد أو المكانة الاجتماعية أو المنصب..
فلا يوجد إسلام خاص بأصحاب اللون الأبيض، ولا يوجد إسلام خاص بالعرب، ولا يوجد إسلام خاص برؤوس الناس وكبرائهم وقادتهم، لا يوجد إلا إسلام واحد، أُرسل به النبي صلى الله عليه وسلم للناس كافة دون تمييز، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28].
1- صور من عدم المحاباة من الهدي النبوي
إذا أردت أن تعرف تطبيق ذلك في سيرة أمتنا فاقرأ هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها، أن قريشًا أهمّهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يعلمنا الثبات على المبدأ وعدم التلون والتذبذب، وأن ليس في الإسلام محاباة لأحد وإن كان رأساً أو زعيماً أو من أبناءهم، فليس يَحِلُّ أمر في الإسلام إذا فعله قويّ، ويحرم إذا فعله ضعيف، بل إنّ الكل سواء كأسنان المشط.
عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، بعث إلى عسعس بن سلامة زمن فتنة ابن الزبير، فقال: اجمع لي نفراً من إخوانك حتى أحدثهم، فبعث رسولاً إليهم، فلما اجتمعوا جاء جندب وعليه برنس أصفر، فقال: تحدثوا بما كنتم تحدثون به حتى دار الحديث، فلما دار الحديث إليه حسر البرنس عن رأسه، فقال: إني أتيتكم ولا أريد أن أخبركم عن نبيكم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً من المسلمين إلى قوم من المشركين، وإنهم التقوا فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله، وإن رجلاً من المسلمين قصد غفلته، قال: وكنا نحدث أنه أسامة بن زيد، فلما رفع عليه السيف قال: لا إله إلا الله، فقتله، فجاء البشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأخبره، حتى أخبره خبر الرجل كيف صنع، فدعاه فسأله فقال: (لم قتلته؟) قال: يا رسول الله، أوجع في المسلمين، وقتل فلاناً وفلاناً، وسمى له نفراً، وإني حملت عليه، فلما رأى السيف قال: لا إله إلا الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقتلته؟) قال: نعم، قال: (فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟) قال: يا رسول الله، استغفر لي، قال: (وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟) قال: فجعل لا يزيده على أن يقول: (كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة).
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فصبحنا الْحُرَقَاتِ من جهينة، فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقال لا إله إلا الله وقتلته؟) قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح، قال: (أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟) فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قد عظَّم هذا الخطأ الذي ارتكبه حِبُّه وابن حبِّه وهو أسامة بن زيد رضي الله عنهما، ولم تمنعه مكانته عنده من أن ينكر عليه فعلته، ويشدَّد عليه في تبيين هذا الخطأ: وهو قتل الرجل الذي قال: لا إله إلا الله، فاعلم أخي في الله أنه ليس في الإسلام محاباة لشخصِ أحدٍ وإن كان مجاهداً أو قائداً.
وعن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الفَتْحِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا، خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ، يَلْتَمِسُونَ الخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلُوا يَسِيرُونَ حَتَّى أَتَوْا مَرَّ الظَّهْرَانِ، فَإِذَا هُمْ بِنِيرَانٍ كَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا هَذِهِ، لَكَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ: نِيرَانُ بَنِي عَمْرٍو، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: عَمْرٌو أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، فَرَآهُمْ نَاسٌ مِنْ حَرَسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدْرَكُوهُمْ فَأَخَذُوهُمْ، فَأَتَوْا بِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ، فَلَمَّا سَارَ قَالَ لِلْعَبَّاسِ: (احْبِسْ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ حَطْمِ الخَيْلِ، حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى المُسْلِمِينَ) فَحَبَسَهُ العَبَّاسُ، فَجَعَلَتِ القَبَائِلُ تَمُرُّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَمُرُّ كَتِيبَةً كَتِيبَةً عَلَى أَبِي سُفْيَانَ، فَمَرَّتْ كَتِيبَةٌ، قَالَ: يَا عَبَّاسُ مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هَذِهِ غِفَارُ، قَالَ: مَا لِي وَلِغِفَارَ، ثُمَّ مَرَّتْ جُهَيْنَةُ، قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَرَّتْ سَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمَرَّتْ سُلَيْمُ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى أَقْبَلَتْ كَتِيبَةٌ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا، قَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ الأَنْصَارُ، عَلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مَعَهُ الرَّايَةُ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، اليَوْمَ يَوْمُ المَلْحَمَةِ، اليَوْمَ تُسْتَحَلُّ الكَعْبَةُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا عَبَّاسُ حَبَّذَا يَوْمُ الذِّمَارِ، ثُمَّ جَاءَتْ كَتِيبَةٌ، وَهِيَ أَقَلُّ الكَتَائِبِ، فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَرَايَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ، فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي سُفْيَانَ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟ قَالَ: (مَا قَالَ؟) قَالَ: كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: (كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الكَعْبَةُ) قَالَ: وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُرْكَزَ رَايَتُهُ بِالحَجُونِ قَالَ عُرْوَةُ، وَأَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ العَبَّاسَ، يَقُولُ لِلزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَا هُنَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَرْكُزَ الرَّايَةَ، قَالَ: وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ، وَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُدَا، فَقُتِلَ مِنْ خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ رَجُلاَنِ: حُبَيْشُ بْنُ الأَشْعَرِ، وَكُرْزُ بْنُ جابِرٍ الفِهْرِيُّ.
لم تحل مكانةُ سعدٍ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يسكت عن خطأه، لا سيما وان الذي اشتكى من قوله رجلٌ أوجع في المسلمين، وهذه أول لحظات دخوله في الإسلام، بل بين رسول الله خطأ سعد وصححه على ملأ.
فاحذر - أخي في الله - من السكوت عن خطأ المخطئ محاباة له لأنه عسكري أو قائد أو كبير شأن، واعلم أن السكوت عن خطئه يلبس على الناس دينهم، وربما أودى ذلك إلى عدم استجابة من تريد نصحه في المستقبل، فانصح بحكمة ورحمة ولا تمل من بيان الخطأ، فهذا دِيْنٌ وشأنه عظيم.
وعن الأسود بن سريع رضي الله عنه قال: كنا في غزاة فأصبنا ظَفَرًا، وقتّلنا في المشركين حتى بلغ بهم القتل إلى أن قتلوا الذرية، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما بال أقوام بلغ بهم القتل إلى أن قتلوا الذرية؟ ألا لا تقتلوا ذرية، ألا لا تقتلوا ذرية)، قيل: يا رسول الله، أوليس هم أولاد المشركين؟ قال: (أوليس خياركم أولاد المشركين).
في هذا الحديث ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خطأً ارتُكب في حق أعداء، ولم يمنعه بغضه لعدوه من إنكار ذلك.
ورحم الله الخليفة الأول أبا بكر الصديق رضي الله عنه إذ قال: "فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني؛ وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله".
2- تطبيق عدم المحاباة وحاجتنا إليه
ما أحوجنا إلى عدم المحاباة في بيوتنا عند تربيتنا لأبنائنا، ذلك أن المحاباة لأحدهم تفسد العلاقة بينهم، وتفسدها فيما بينهم وبيننا، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه، قال: تصدق عليَّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشهِد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفعلت هذا بولدك كلهم؟) قال: لا، قال: (اتقوا الله، واعدلوا في أولادكم)، فرجع أبي، فرد تلك الصدقة.
وكذلك يطلب العدل وعدم المحاباة مع الزوجات أيضا: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وشقه مائل).
ما أحوجنا إلى عدم المحاباة عندما نريد أن نعين موظفاً أو مسئولا... فعن يزيد بن أبي سفيان، قال: قال أبو بكر رضي الله عنه، حين بعثني إلى الشام: يا يزيد، إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكبر ما أخاف عليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلا عَدْلًا حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ ومن أعطى أحدا حمى الله فقد انتهك في حمى الله شيئا بغير حقه، فعليه لعنة الله، أو قال: تبرأت منه ذمة الله عز وجل).
ما أحوجنا إلى عدم المحاباة في ثورتنا وجهادنا، فلا نتحزب لفصيل ما سواء أصاب أم أخطأ، ما أحوجنا إلى عدم المحاباة وأخذ الثائر المجاهد ومحاسبته على خطئه الذي ارتكبه، سواء كان الخطأ مرتكب ضدّ إخوانه أو أعدائه.
نعم -أيها الأحبة- ليس في الإسلام محاباة لأحد، ولا يجوز السكوت عن خطئ أحد هذا هو الإسلام لا يعرف محاباة أو مراوغة أو تذبذبا، أو تفضيلا لأحد على أحد بناء على لونه أو عرقه أو مكانته الاجتماعية، الكل سواسية كأسنان الشمط.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.