1- العلماء أمناء على أحكام الله
2- من سيرة المسلمين مع الفتوى
3- مما يحذر عند الفتوى
مقدمة:
إن المفتي موقع عن الله في فتواه، فإذا حاد عن الحق متعمداً فقد أحل ما حرم الله أو حرم ما أحل الله، وهذا افتراء على الله وتلبيس على الخلق، كما أن للفتوى كل الأثر في إثبات الحقوق والواجبات والأقضية والأحكام والدماء والديات، بل وتحديد مصير الأمة في فتاوى الحرب والجهاد؛ لذلك لا ينبغي أن تؤخذ إلا من أهلها القادرين عليها.
1- العلماء أمناء على أحكام الله
لقد أخذ الله العهد على العلماء أن يبنوا للناس دينهم ولا يكتموا منه شيئا، ولقد حذر سبحانه وتعالى من مغبة التلاعب بأحكام الله تبعا للهوى، وذلك في سبيل أن يطمئن السائل لجواب من أُمِر بسؤاله إذا غاب عنه حكم من أحكام الله، ولقد كان المسلمون الأوائل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرجون من الفتوى، أما رويبضات اليوم فيتصدرون لمسألة لو عرضت على عمر رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر.
أخذ الله العهد على العلماء أن يبنوا للناس دينهم ولا يكتموا منه شيئا فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187].
وقال عن أولئك الذين كتموا أحكام الله وآياته: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 140].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159].
أما أولئك الذين كتموا أحكام الله لغايات ومقاصد ومنافع دنيوية مادية، فقد قال عنهم جلّ جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 174-175].
ولقد حذر المولى سبحانه من مغبة التلاعب بأحكام الله تبعا للهوى، فقال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُون} [النحل:116].
ويقول تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59].
لقد جاءت كل تلك الأوامر والتنبيهات والزواجر في سبيل أن يطمئن السائل لجواب من أمر بسؤاله إذا غاب عنه حكم من أحكام الله، قال تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون} [النحل: 43].
وأهل الذكر هم العلماء، والمطلوب منهم بيان أحكام الله دون مواربة، وهذا تِبعا لأمر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [الأعراف: 23].
وسبيل معرفة الحكم حلاله وحرامه كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: "ليس لأحد أن يقول في شيء حلال ولا حرام إلا من جهة العلم، وجهة العلم: ما نص في الكتاب أو في السنة أو في الإجماع أو القياس على هذه الأصول ما في معناها".
2- من سيرة المسلمين مع الفتوى
ولقد كان المسلمون الأوائل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرجون من الفتوى، حتى قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما منهم رجل يسأل عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه، ولا يحدث حديثا إلا يود أن أخاه كفاه".
ولقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيتصدر للفتوى من ليس أهلا لها، كما في الحديث: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلـم قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوسا جهَّالا، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).
وفي رواية مسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالما، اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).
قال سفيانُ الثوريُّ رحمة اللَّه عليه: "أَدركنا الفُقهاءَ وهُم يَكرهونَ أن يُجيبوا في المسائل والفُتيا حتى لا يَجِدوا بُدًّا من أن يُفتُوا، وإذا أُعفُوا منهَا كانَ أَحبَّ إليهِم".
وَقَالَ بَعضُ العُلَمَاءِ لِبَعضِ المُفتِينَ: "إِذَا سُئِلتَ عَن مَسأَلَةٍ، فَلَا يَكُنْ هَمُّكَ تَخلِيصَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ تَخلِيصَ نَفسِكَ أَوَّلًا".
وكان الإمام مالك إذا سُئل عن مسألة كأنه واقف بين الجنة والنار.
3- مما يحذر عند الفتوى
أيها المفتون والشرعيون، يا طلاب العلم: احذروا من حب الظهور وبريق الشهرة، فصاحب الفتاوى المتساهلة تزداد شعبيته، وتكثر جماهيره؛ ولكن راقبوا الله في فتواكم، فأنتم موقعون عن الله {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].
ومما يجب على المفتي: استشعار مسؤولية الفتوى وما يترتب عليها في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فمن تشريع لأحكام من تحليل وتحريم وما يترتب على ذلك من أقضية وأحكام وحقوق، وفي الآخرة من وقوف بين يدي الملك سبحانه ليسأل اولئك الذين أولاهم الله أمانة التبليغ عنه.
ولقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام إن سئل عن شيء لا يعلمه قال: (لا أدري)، عن جبير بن مطعم: أن رجلا، أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أي البلاد شر؟ فقال: (لا أدري)، فلما أتى جبريل رسول الله عليهما السلام، قال: (أي البلاد شر؟) قال: لا أدري، حتى أسأل ربي، فانطلق جبريل عليه السلام، فمكث ما شاء الله، فقال: يا محمد إنك سألتني أي البلاد شر؟ فقلت: لا أدري، وإني سألت ربي، فقلت: أي البلاد شر؟ قال: أسواقها.
وهذا الإمام مالك رحمه الله كما يقول عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل فقال له: يا أبا عبد الله جئتك من مسيرة ستة أشهر حمّلني أهل بلدي مسألة أسألك عنها. قال: فسل. فسأله الرجل عن المسألة، فقال: لا أحسنها. قال: فبهت الرجل كأنه قد جاء إلى مَن يعلم كل شيء. فقال: أي شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم؟ قال: تقول لهم: قال مالك: لا أُحسن.
ومن أهمّ ما يجب منه الحذر أن يسعى المفتي في فتواه إلى إرضاء أحد من أهل السلطة، ومن له منفعة معه من حزب أو جماعة.
فتذكر أيها المفتي أن فتواك حكم تنطق به لكنك تنسبه إلى الله، فالواجب على المفتي أن يكون وقافا على الحق مهما كان سلطان من يريد له أن يميل وينحرف، وإن كان هو الحاكم أو الأمير... وفي الحديث: (إنه سيكون عليكم أئمة تعرفون وتنكرون فمن أنكر فقد برئ ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع...).
ومن يتعرض للفتيا حقيق به أن يصغي جيدا إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالا، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا، يهوي بها في جهنم).
عباد الله: إن مما ينبغي على المسلم فعله ألا يأخذ فتواه إلا من العلماء الربانيين المأمونين في دينهم وعلى شريعة ربهم ومن طلاب العلم الموثوقين المتعمقين في المسائل الفقهية، لا أن يأخذها من المجاهيل الذين لا يُعرف من أين أخذوا العلم وعن من تلقوه، كما ينبغي أن يأخذ الفتوى من علماء بلده فهم أدرى بالواقع الذي قد تتغير معه الفتوى تبعاً لتغير الظروف، فلكل بلد ظروفها وأحوالها وعاداتها، فما يصلح لبلد قد لا يصلح في بلد آخر، وخاصة في أمور المعاملات والحقوق، وأخص من ذلك في أمور الدماء التي أول ما سيسأل الله عنه العباد.
فإياك أخي المسلم أن تأخذ فتواك من مجهول لا يعرف إلا بلقبه، وفي الامة من العلماء وطلاب العلم الصادقين الكثير الكثير بحمد الله.