1- جُرمٌ عظيمٌ
2- توبةٌ نصوحٌ
مقدمة:
مَنَّ الحقّ جل جلاله علينا بفتحٍ عظيمٍ، دخلت بموجبه أرتال المجاهدين ساحة الأمويّين، ودانت لهم به معظم البلاد، وهذا الفتح يذكّرنا بالفتح العظيم الّذي مَنّ الحقّ سبحانه به على نبيّه صلى الله عليه وسلم، وتظهر عادةً بعد الفتوحات مسائل متشابهةٌ، ومِن تلك المسائل: العفو عن الظّلمة وأعوانهم، والكفّار وجندهم، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنةٌ، فمِن طيّب الذِّكر أن نستذكر سيرة نبيّنا صلى الله عليه وسلم العطرة، فنكثر مِن الصّلاة والسّلام عليه في يومٍ ندبَنا أن نكثر عليه مِن الصّلاة فيه، عَنْ أَوْسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ) قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ -يَقُولُونَ: بَلِيتَ-؟ فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ سبحانه حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ).
وقد أمرنا الحقّ عز وجل بالصّلاة عليه صلى الله عليه وسلم {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
ونستذكر سيرته صلى الله عليه وسلم أيضًا لنستخلص منها الدّروس والعبر، ولنعرف عظيم حقّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم علينا، فننظر في إهداره صلى الله عليه وسلم دم مَن وقع في عرضه، فقد أهدر دماءهم فلم تُعصَم يوم عُصمت الكثير مِن الدّماء، وأُبيحت ولو تعلّقوا بأستار الكعبة، لنتعلّم صيانة عِرض النّبيّ صلى الله عليه وسلم وحماية جنابه.
وبما أن قصّة فتح مكّة طويلة الذّيل، عريضة الحاشية، نقتصر منها على جزءٍ يتعلّق بالعفو عمّن حارب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فنتعرّض لقصّة عبد الله بن أبي سرحٍ رضي الله عنه.
1- جُرمٌ عظيمٌ
حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة وفرّق جيوشه أمرهم أن لا يقتلوا أحدًا إلّا مَن قاتلهم، إلّا نفرًا قد سمّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (اقتلوهم، وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة)، عبد الله بن خطلٍ، وعبد الله ابن أبي سرحٍ، وإنّما أمر بابن أبي سرحٍ لأنّه كان قد أسلم، فكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي؛ فرجع مشركًا ولحق بمكّة، فكان يقول لهم: إنّي لأصرفه كيف شئت، إنّه ليأمرني أن أكتب له الشّيء فأقول له: أو كذا أو كذا؟ فيقول: نعم، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "عليمٌ حليمٌ" فيقول له: أو أكتب "عزيزٌ حكيمٌ"؟ فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلاهما سواءٌ.
وكان يقول: واللهِ لو أشاء لقلت كما يقول محمّدٌ، وجئت بمثل ما يأتي به، إنّه ليقول الشّيء وأصرفه إلى شيءٍ؛ فيقول: أصبت، ففيه أنزل الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}، فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله.
فلمّا كان يوم الفتح، جاء ابن أبي سرحٍ إلى عثمان بن عفّان رضي الله عنه، وكان أخاه مِن الرّضاعة، فقال: يا أخي إنّي والله أستجير بك، فاحبسني ها هنا، واذهب إلى محمّدٍ فكلّمه فيّ، فإنّ محمّدًا إن رآني ضرب الّذي فيه عيناي، إنّ جُرمي أعظم الجُرم، وقد جئت تائبًا، فقال عثمان: انطلق معي، فلا يقتلك إن شاء الله، فلم يرع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلّا عثمان رضي الله عنه آخذًا بيد عبد الله بن سعد ابن أبي سرحٍ واقفَين بين يديه، فأقبل عثمان رضي الله عنه على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أمّه كانت تحملني وتمشيه، وترضعني وتفطمه، وكانت تلطفني وتتركه، فهبه لي، فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل عثمان رضي الله عنه كلّما أعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه استقبله؛ فيعيد عليه هذا الكلام، وإنّما أعرض النّبيّ صلى الله عليه وسلم إرادة أن يقوم رجلٌ فيضرب عنقه، لأنّه لم يؤمّنه، فلمّا رأى أنّه لا يقوم أحدٌ وعثمان رضي الله عنه قد أكبّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّل رأسه وهو يقول: يا رسول الله بايعه فداك أبي وأمي.
بَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: (أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ، فَيَقْتُلُهُ؟) فَقَالُوا: مَا نَدْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ، أَلَّا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ؟ قَالَ: (إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ).
وهذا فيه رسالةٌ مفادها أنّ مُهدر الدّم يمكن قتله دون انتظار الإشارة، إذ ليس مِن الافتئات على الإمام أن نبادر فنقتل مَن أهدر الإمام دمه، بل نكون بذلك منفّذين للحكم الّذي أصدره مِن قبل.
2- توبةٌ نصوحٌ
وكان رجلٌ مِن الأنصار قد نذر إن رأى ابن أبي سرحٍ أن يقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاريّ: (هلّا وفّيت بنذرك) فقال: يا رسول الله وضعت يدي على قائم السّيف أنتظر متى تومئ فأقتله، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: (ليس لنبيٍّ أن يومئ).
إنّ الإيماءة لو تمّت لأحزنت عثمان بن عفّانٍ رضي الله عنه، ومبادرة الأنصاريّ لو تمّت لرفعت هذا الحرج.
فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يفرّ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّما رآه، فقال عثمان رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: بأبي وأمّي لو ترى ابن أمّ عبد الله يفرّ منك كلّما رآك، فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ألم أبايعه وأومّنه؟) قال رضي الله عنه: بلى يا رسول الله، ولكنّه يتذكّر عظيم جُرمه في الإسلام، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يجبُّ ما كان قبله)، فرجع عثمان رضي الله عنه إلى ابن أبي سرحٍ رضي الله عنه، فأخبره، فكان يأتي فيسلّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع النّاس.
وقد أسلم ذلك اليوم رضي الله عنه، وحَسن إسلامه، ولم يظهر منه بعده ما يُنكر، وهو أحد العقلاء والكرماء مِن قريشٍ، ثمّ ولّاه عثمان رضي الله عنه مصر سنة خمس وعشرين، ففتح الله على يديه إفريقيّة، وكان فتحًا عظيمًا؛ بلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف مثقالٍ ذهبًا، وشهد معه هذا الفتح عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزّبير، وكان عبد الله بن سعدٍ هذا رضي الله عنه فارس بني عامر بن لؤيٍّ، وغزا بعد إفريقيّة الأساود مِن أرض النّوبة سنة إحدى وثلاثين، وغزا غزوة الصّواري في البحر إلى الرّوم، ثمّ أقام بعسقلان، وقيل: بالرّملة، وكان دعا بأن يختم عمره بالصّلاة، فسلَّم مِن صلاة الصّبح التّسليمة الأولى، ثمّ همّ بالتّسليمة الثّانية عن يساره، فتوفي رضي الله عنه.
قارن هذا المصير وهذه التّوبة بما ورد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: "كَانَ مِنَّا رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ قَدْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، وَكَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقَ هَارِبًا حَتَّى لَحِقَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ: فَرَفَعُوهُ، قَالُوا: هَذَا قَدْ كَانَ يَكْتُبُ لِمُحَمَّدٍ، فَأُعْجِبُوا بِهِ، فَمَا لَبِثَ أَنْ قَصَمَ اللهُ عُنُقَهُ فِيهِمْ، فَحَفَرُوا لَهُ فَوَارَوْهُ، فَأَصْبَحَتِ الْأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا، ثُمَّ عَادُوا فَحَفَرُوا لَهُ، فَوَارَوْهُ، فَأَصْبَحَتِ الْأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا، ثُمَّ عَادُوا فَحَفَرُوا لَهُ، فَوَارَوْهُ، فَأَصْبَحَتِ الْأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا، فَتَرَكُوهُ مَنْبُوذًا".
قدر الله ماضٍ، وإرادته فوق كلّ إرادة، فهذا رجلان ارتدّا مِن كتبَة الوحي، علم الله في أحدهما الخير، فيسّر له توبةً أثمرت ما أثمرت مِن فتوحٍ ونصرةٍ لدِين الله، وجعل الله الآخرَ عبرةً لمن يعتبر.
خاتمةٌ:
ونحن اليوم أمام فلول نظام الإجرام نرجو أن يصدر الحكم برؤوسهم، حكمٌ يقضي بإزاحة رؤوسهم عن أكتافهم، ولو تعلّقوا بأستار الكعبة، لكنّنا لا نعلم أين يكمن الخير، فالغيب لا يعلمه إلّا الله، ومستقبل الأفراد مِن الغيب، ننطلق مِن الظّاهر الّذي نرى، والواقعِ الّذي نعيشُ، فيبدو لنا أنّ استقرار البلد واستتباب أمنه إنّما يكون بمعاقبة رؤوس الإجرام، لكنّنا ننقلب إلى قصّة عبد الله بن أبي سرحٍ رضي الله عنه فنجد فيها عجبًا، ونجدُ تحوّلًا مِن كاتب وحيٍ مقرّبٍ مِن صاحب الرّسالة صلى الله عليه وسلم إلى مرتدٍّ يثير الشّبهات، ثمّ يتحوّل إلى تائبٍ إلى مجاهدٍ، إلى قائد الجيوش وفاتح الأقاليم.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النّحل: 90-91].
تأمرنا الآية الأولى أن نقيم العدل، ومِن إقامته ألّا يظلّ فلول النّظام يسرحون ويمرحون فلا يوضعون في الميزان، وتأمرنا الآية الثّانية أن نوفي بالعهد المقطوع، فمَن قطعنا له عهدًا بالأمان وجب علينا أن نلتزم بما قطعنا، وإن كان في بادئ الأمر مِن جند النّظام، فإن رأينا عفوًا ننكره ولا سبيل لنا إلى ردّه ولا تغييره تذكّرنا قصّة عبد الله بن أبي سرحٍ رضي الله عنه، وقلنا: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطّلاق: 1].
وإذا ما ظفر وليّ الدّم بمَن أهدر الإمام دمه فإنّه ليس ملزمًا بانتظار إيماءة السّلطات، فإنّ هذا الانتظار قد يوقع السّلطة في حرجٍ، بل له أن يبادر فيأخذ حقّه ممّن علم أنّ دمه غير مصونٍ، مراعيًا حكم الشّرع والقانون، فمراعاة الشّرع منجاةٌ، إذ يقف وليّ الدّم في الآخرة بين يدي الله، ومراعاة القانون منجاةٌ إذا استدعاه في الدّنيا القضاة، إذ الأصل ألّا توقع العقوبات إلّا بأحكامٍ ممهورةٍ، فلا تسود الفوضى، ولا يحصل ما يُرضى.