مقدمة:
عصور سلفت، وأعمار مضت، وأمم على إثرها أمم، وأجيال عقب أجيال.. أحوال متباينة، وصور متغايرة، وأمور تُدار، والله يخلق ما يشاء ويختار..
وإن لله في كرّ التاريخ لآياتٍ وعبراً
اسألوا التاريخ إذ فيه العبرْ ضلَّ قومٌ ليس يدرون العِبَرْ
سنقف على عبرة واحدة تجمعها صورٌ كثيرة، العبرة في قول نبيكم المصطفى: (تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)
وأما الصور فهي ناطقةٌ بالعبر، نقتطفها من صفحات التاريخ:
الصورة الأولى: يونس بن متى نبي الله، يسقط في لجج البحار فيبتلعه الحوت، فهو في ظلمةِ جوف الحوت، في ظلمة جوف البحر، في ظلمة الليل، في ظلمات ثلاث، لا يعلم بمكانه أحد، ولا يسمع نداءه أحد، ولكن يسمع نداءه من لا يخفى عليه النجوى، ويعلم مكانه من لا يغيب عنه مكان؛ فدعا ربه وهو على هذه الحال، وقال: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} [الأنبياء: 87].
فسمعت الملائكة دعاءه وشكواه، فقالت: صوتٌ معروف في أرض غريبة!
هذا يونس لم يزل يُرفع له عملٌ صالحٌ ودعوةٌ مستجابة.
فجاء الجواب: {فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} [الصافات: 143].
وأتاه ربُّه بالنجاة {فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين} [الأنبياء: 88].
قال الحسن البصري: "ما كان ليونس صلاةٌ في بطن الحوت، ولكن قدّم عملاً صالحاً في حال الرخاء، فذكره الله في حال البلاء، وإنّ العمل الصالح ليرفع صاحبه، فإذا عثر وجد متكئاً (تعرّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)".
وفي البحر قصصٌ أخرى وعبرٌ تترى، فهذا الطاغية فرعون يدركه الغرق فيدعو بالتوحيد: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} [يونس:90].
سمعت الملائكة دعاءه، فنزل جبريل سريعاً، أتُراه يريد أن ينجد هذا الظالم أو يغيثه! لا، إنما يأخذ من وحل البحر فيدسُه في فمه خشية أن تدركه الرحمة، وبعدها أتاه الجواب من ربه {آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} [يونس: 91].
أين كنت حال الرخاء والسعة، آلآن إذ نزل بك الذي نزل!؟
لقد سمعت الملائكة دعاء كلا المكروبَيْن -يونس وفرعون- ولكنْ فرقٌ عظيمٌ، فالأول تقول فيه: صوتٌ معروفٌ في أرض غريبة هذا يونس لم يزل يُرفع له عمل صالح ودعوة مستجابة.
وأما الآخر فينزل جبريل يدس الوحل في فمه خشية أن تدركه الرحمة.
تُرى ما الفرق بين الحالين؟ والكربُ واحدٌ، والصورة واحدة!؟
إنّ الفرق واضح، والبونَ شاسع، فرقٌ بين من عرف الله في الرخاء ومن ضيّعه؛ فيونس رخاؤه دعاءٌ ودعوة؛ وفرعونُ رخاؤه ظلمٌ وكفرٌ وجحودٌ.
ولا يزال لطيفُ صنعِ الله عز وجل بأوليائه وعباده الصالحين يتوالى عليهم في حال الشدائد والكُرَب، فيفرّج كربهم، وينفّس عنهم حيث كان لهم مع الله معاملةٌ في الرخاء.
الصورة الثانية: نبي الله أيوب عليه السلام، كان كثير المال، له سائر صنوفه وأنواعه من العبيد والأنعام والأراضي، وكان له أولاد كثيرون وأهلون، سُلب ذلك كله، وابتلي بأنواع البلاء، وطال مرضه حتى استوحش منه الأنيس، وفارقه الجليس، ولم يبق يحنو عليه أحدٌ سوى زوجته، ترعى له حقه، وكانت تقول له: يا أيوب لو دعوت ربك لفرّج عنك، قال: قد عشتُ سبعين سنةً صحيحاً، فهل قليلٌ لله أن أصبر له سبعين سنة!
فضعُف حالها وقلّ مالها، حتى كانت تخدم الناس بالأجر، ثم اضطرت أن تبيع ظفائرها، فلنا علم أيوب بما وصلت إليه نادى ربه: {أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} [الأنبياء: 83].
فأتاه الجواب: {فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضُر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمةً من عندنا وذكرى للعابدين} [الأنبياء: 84].
لقد عرف ربه في الرخاء فعرفه في الشدة.
الصورة الثالثة: زكريا عليه السلام يدخل على مريم فيجد عندها رزقاً، فاكهة لم يأت أوانها بعد، قال: {أنى لك هذا قالت هو من عند الله} [مريم: 37].
رجع زكريا وتفكّر فيما رأى من آثار رحمة ربه، ثم نظر في نفسه، فإذا هو شيخٌ طاعنٌ في السن، وامرأتُه مع كبر السن عقيمٌ لا تلد، ولكنّ الذي رزق مريم فاكهة الصيف في الشتاء، وقدّرها لها في غير ميعادها لقادرٌ على أن يزرقه الولد وإن بلغ في السن ما بلغ، ولو كانت امرأته عقيما لا تلد.
قام من الليل مصلياً فنادى ربه مناداةً أسرّها عمن كان حاضراً عنده، فخافته فقال: يا رب، يا رب، فقال الله: لبيك، لبيك، قال: {قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك رب شقيا * وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك ولياً} [مريم: 4-5].
قال الله: {هنالك دعا زكريا ربه قال ربِّ هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء} [آل عمران: 38].
فجاء الجواب: {يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سمياً} [مريم: 7].
لقد أتاه الجواب وهو لايزال في محرابه في مصلاه: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين} [آل عمران: 39].
لقد عرف ربه في الرخاء فعرفه حال الشدة.
الصورة الرابعة: الثلاثة من بني إسرائيل الذين قصّ النبي صلى الله عليه وسلم قصتهم، يوم أن آواهم المبيتُ إلى غار، فتدهدهت صخرة عظيمة فأغلقت عليهم فم الكهف.
إن نادوا لن يُسمع نداؤهم، وإن استنجدوا فلا أحد ينجدهم، وإن دفعوا فسواعدُهم أضعفُ وأعجزُ من أن تدفع الصخرة، فلم يجدوا وسيلة في هذه الشدة إلا أن يذكروا معاملتهم لله حال الرخاء، فدعا أحدهم ببره والديه يومَ أتى فوجدهما نائمين، وقد أتاهما بعشائهما وقدح من اللبن، وصبيتُه يتضاوعون من الجوع، فلم يقدّم أولاده على والديه، ولم يوقظ والديه شفقةً بهما، وتركهما في نومهما، وجلس ممسكاً قدح اللبن حتى أسفر الصبح، فإذا استيقظا سقاهما، فقدّم ضعف والديه على ضعف أولاده وحاجتهم، وقدّم شفقة الوالد على شفقة الولد، فشرب أبواه وانتظر بنوه.
ثم قال: "اللهم إن كنتَ تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرُج عنا ما نحن فيه"، فانفرجت الصخرة قليلاً، ثم دعا الآخر فذكر يوم أن قدر على المعصية وتمكن من الفاحشة ووصل إلى أحب الناس إليه، ابنة عمه، بعد أن كان راودها كثيراً وامتنعت، حتى إذا أمكنته الفرصةُ، واستغل حاجةً لها إلى المال، فاستطاع أن يصل إلى شهوته، وكاد أن يكابد الفاحشة، فخاطب فيه المرأة مراقبته لله، فقالت: اتق الله ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقه، فارتع ووجفت نفسه، وتذكر الله فوقه، فتركها وهي أحب ما تكون إليه، في لحظة هي أعز من أن يصدق فيها المرء، وترك لها المال الذي أعطاها، ثم قال: "اللهم إن كنتَ تعلم أني فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرُج عنا ما نحن فيه"، فانفرجت الصخرة قليلاً، لكن لم يستطيعوا الخروج.
ثم دعا الثالث، وذكر يوم صدقٍ وأمانةٍ أسلفه، حيث استأجر أجراء فأعطاهم أجرهم، وبقي واحدٌ لم يأخذ أجره، وغاب عنه، فنمّى له أجره وتاجر له فيه، فصار ماشيةً وثمراً ومالاً كثيراً، ثم جاء الأجير بعد زمن طويل، يقول: أعطني حقي، وكان يستطيع أن يقول له: هذا حقك أصوُعٌ من طعام، لكنه صدق وعفَّ فقال: حقُّك ما تراه، كل هذا الدقيق والماشية كلها لك، فلم يستوعب ذلك عقل الأجير فقال: اتق الله ولا تهزأ بي، فقال: يا عبد الله إني لا أهزأ بك، إن هذا مالك، فساقه الرجل جميعاً، ولم يترك شيئاً.
ثم قال: "اللهم إن كنتَ تعلم أني فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرُج عنا ما نحن فيه"، فانفرجت الصخرة.
لقد تنامت دعواتهم وتنامت مناجاتهم، فإذا الشدة تُفرج والضيقُ يتسع، وإذا الصخرة تندفع فخرجوا من الغار يمشون، لقد عرفوا ربهم حال الرخاء فعرفهم حال الشدة.
نعم وكما تُكشف عن الأفراد كروبٌ وتُفرج عنهم شدائد إذا هم عرفوا الله في الرخاء كذا تُفرج عن الأمة كروبٌ وتُنفّس عنها شدائد إذا عرف أبناؤها الله حال الرخاء.
أما طاف الأحزابُ بالمدينة وهم عشرة ألاف، والمسلمون ثلاثة آلاف! وكانت شدةً عظيمةً، ففرّج الله عن القوم، لما عرفوا الله في الرخاء، فأرسل الريح فاقتلعت خيام الأحزاب، وكفأت القدور عليهم، ففر جيشهم من غير قتال.
ونحن اليوم نعيش شدةً عظيمةً تعانيها الأمة، فنعرف أنّ الأمة اليوم تدفع الثمن باهظاً ثمن غفلةٍ طويلة ونسيانٍ لله، فها نحن اليوم في الشدة، وندعو في الشدة، لكن طالما أطلنا التفريط حال الرخاء..
إن الشدائد لن تخطئ أحداً، وإنّ خير ما نلقى به هذه الشدائد معرفة الله في الرخاء.
الصحة رخاء، والشباب رخاء، والمال رخاء، والأمن رخاء، والفراغ رخاء، القوة رخاء، فهل نعرف الله في هذا الرخاء.
وأما الشدائد فقد تخطئنا شدة الفقر، وقد تخطئنا شدة المرض، ولكن لن تخطئنا شدة الموت، وهل أشد منه!؟
ولكنها شدة تُفرج بمعرفة الله في الرخاء، وإنّ ربنا أكرم وأرحم من أن يخذل عبداً عند هذا الموطن وقد عرفه حال الرخاء.
{إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} [فصلت: 30].
وليكن دستورُنا وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة).