1- حقيقة الفرار الى الله
2- الأمور التي تعين على الفرار إلى الله
3- ما الدافع للفرار إلى الله
4- ثمرات الفرار إلى الله
مقدمة:
حين يتكالب الأعداء على الاسلام والمسلمين وتقوى شوكتهم ويشتد أمرهم، وحين توجه الضربات تلو الضربات للإسلام وأهله، والمسلمون في حالة من الخذلان والضعف، فإنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فهو يجير ولا يجار عليه.
1- حقيقة الفرار الى الله
الفرار إلى الله يكون باتباع أوامره واجتناب نواهيه: إن الفرار إلى الله يكون باتباع أوامره واجتناب نواهيه، والوقوف عند الحلال والحرام، والاهتداء بتعاليم المصطفى المختار، قال تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
الفرار إلى الله هو العمل بطاعته، والبعد عن معصيته..
الفرار إلى الله شوقٌ إلى الجنة، وطلبٌ حثيثٌ لها، وخوفٌ من النار، وفزعٌ كبيرٌ منها.. الفرار إلى الله فرارٌ من الجهل إلى العلم، من الشرك إلى التوحيد، من الغفلة إلى اليقظة، من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة، فرارٌ من الضيق إلى السعة، من الكدر إلى الصفاء، فرارٌ من الكسل إلى الجد، ومن التخليط إلى الإخلاص، فرارٌ من الخلق إلى الخالق، من الأرض إلى السماء، فرارٌ من ضيق الصدر وانقباضه إلى طمأنينة القلب وانشراحه، من القلق إلى قرة العين..
الفرار إلى الله فرارٌ من ذلّ الشهوة ومرارتها إلى عز الطاعة وحلاوتها..
معاشر المسلمين إن الفرار إلى الله يقتضي منا أن نقبل على كتاب الله عز وجل بالتلاوة والتدبر والنظر في معانيه والعمل بأحكامه، نفر إلى الله بالدعاء وقيام الليل وصيام التطوع وإخراج الصدقات، وفي ذلك يقول الإمام ابن قيم الجوزية: "وله في كل وقت هجرتان: هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل والتسليم والتفويض والخوف والرجاء والإقبال عليه وصدق اللجوء والافتقار إليه، وهجرة إلى رسوله في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة بحيث تكــون موافقة لشـرعه".
قد يتساءل متسائل كيف يكون الفرار الى الله وإنما الفرار يكون من الشيء لا إليه؟
الحقيقة كيف يكون الفرار إلى الله وليس من الله؟ والفرق كبيرٌ بينهما، كل الناس في حالة فرار، أما السعداء منهم ففرارهم إلى الله عز وجل، إلى رحابه، إلى جنته، وأما الأشقياء ففرارهم منه لا إليه، ينشغلون عنه بملهياتٍ كثيرة تبعدهم عن ربهم جل جلاله، هؤلاء السعداء يفرون صعوداً إلى السماء، وهؤلاء الأشقياء يفرون سقوطاً إلى الأرض.
الله جل جلاله يطالبنا أن نفر إليه لا منه في قوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50].
دع هذه الآية تحتل أكبر مساحة من قلبك ومن عقلك ثم انظر ماذا تصنع فيك ولك.
الفرار إلى الله يرفع الإنسان إلى السماء ليحيا في جنات القرب: الفرار إلى الله حقاً يرفعك إلى السماء لتحيا في جنات القرب الحافلة بكل بهجةٍ ونعيم، كلما صحّ لك هذا الفرار تذوقت ألواناً من أسرار العبادات، تجعل قلبك يهتز وروحك تنتشي، وعقلك يهدأ، وعينك تقر، ونفسك تطمئن، والله الذي لا إله إلا هو إن بقلب المؤمن من السعادة ما لو وزع على أهل بلدٍ لكفاهم، إن بقلب المؤمن من الأمن ما لو وزع على أهل بلدٍ لكفاهم، الإيمان مرتبة عالية جداً، مرتبة علمية، مرتبة أخلاقية، مرتبة جمالية، أنت حينما تفر إلى الله تجد نفسك في يسرٍ، وراحةٍ، وطمأنينةٍ، وسعادةٍ، وقربٍ، وأملٍ، وتفاؤلٍ، وإشراقٍ، تستعلي به على كل زخارف الدنيا.
تسمو فوق كل فخاخ الشيطان التي يحرص على أن يسوقها بين يديك وعلى عينيك ليفتنك بها، حقيقة الفرار إلى الله أن تشحن قلبك بالنور، أن يمتلئ القلب بالنور حتى يصبح كالكوكب الدري يوقد من شجرةٍ مباركة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28].
قلب المؤمن الصادق مستنير يرى الحق حقاً والباطل باطلاً، يمتلئ القلب نوراً من أنوار الوحي حتى يتوهج.
الفرار إلى الله فرارٌ من حظ النفس والهوى إلى مراد الله ورضوانه: الفرار إلى الله فرار من حظوظ النفس الظاهرة والخفية التي تقطعك عن الله جل جلاله وتصرفك عن بابه، الفرار إلى الله فرارٌ من صحبة سوء تحول بينك وبين مولاك، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
كن مع الصادقين، صاحبهم، اجلس معهم.
فليتـــك تحلــو والحيـاة مــريـرةٌ وليتك ترضى والأنام غضــابُ
وليـت الـذي بيني وبينك عـامـرٌ وبيني وبيـن العالمين خـرابُ
إذا صح منك الوصل فالكل هينٌ وكل الذي فوق الـترابِ ترابُ
2- الأمور التي تعين على الفرار إلى الله
محبة الله عز وجل: قال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة: 165].
محبة الله قارب النجاة من الفتن، عاصم المرء من الخطايا، حب الله ينجي المسلم من الغرق في بحر الدنيا، ينجي المسلم من اللهاث وراء مُتعها وشهواتها، فالذي تعلق قلبه بالله لا يطغى عليه حبٌ آخر، والله تعالى يقول: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].
حب الله عز وجل والتعلق به يصنع المعجزات، إذ يهتدي المسلم بهدى الله، ويسترشد بهدي رسول الله.
تجديد التوبة: من وسائل الفرار من الله: تجديد التوبة، فالمؤمن كثير التوبة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم: 8].
وقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
ويقول عليه الصلاة والسلام: (والله إِني لأستغفرُ الله وأَتوبُ إليه في اليومِ سَبعينَ مَرة)
التقرب إلى الله بالنوافل: من وسائل الفرار إلى الله التقرب إلى الله بالنوافل، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: (من عادى لي وَلِيّا فقد آذَنتُه بحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مِنْ أداءِ ما افترضتُ عليه..).
الآن دققوا: (ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّهُ، فإذا أحببتُهُ كُنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألَني أعْطَيتُه، وإن استَعَاذَ بي أعَذْتُه، وما تردَّدتُ عن شيء أنا فاعله تردّدي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مَساءَتَه)
الرفقة الصالحة: ومن وسائل الفرار إلى الله الرفقة الصالحة، قال صلى الله عليه وسلم: (المرءُ على دِين خليله، فلينظرْ أحدُكُم مَن يُخَالِلْ)
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: 28]
3- ما الدافع للفرار إلى الله
إن الناظر اليوم بعين البصر والبصيرة في واقع الأمة وما حل بها من مصائب وويلات، ليأخذ به الأسى والتوجع مأخذا بعيدا، حتى إن اليأس ليوشك أن يحيط به لولا عظيم الأمل في وعد الله عز وجل الذي قال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5- 6].
ومما يذهب اليأس ويعزي النفوس معرفة المسلم بسنن الله عز وجل في عباده وإدراك أن ما أصابنا من المصائب إنما هو من عند أنفسنا وبسبب ذنوبنا، وبما طرأ على حياتنا من بعد عن الله عز وجل ونسيان للآخرة وانغماس في الملذات وإقبال على الدنيا.
وما دام الداء قد عُرف والمرض قد شُخِّص فلا يبقى أمام من ينشد النجاة لنفسه ولأمته إلا أن يقبل على العلاج وذلك بالفرار إلى الله عز وجل والإنابة إليه والاعتصام به سبحانه وتعالى كما أمر في كتابه العزيز بقوله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50].
على المسلم أن يفر إلى الله في زمن الانفتاح الشديد على الدنيا وتغلب الجانب المادي على حياة الناس أكثر، وما ترتب عن ذلك من تكالب على حطامها دون تمييز بين حلال وحرام وطيب وخبيث، فحصل التنافس الشديد على حطامها وصار الحب والبغض من أجلها، بل والقتال من أجلها والعياذ بالله.
على المسلم أن يفر إلى الله في زمن حصلت فيه الغفلة الشديدة عن الآخرة والغاية التي من أجلها خلقنا..
على المسلم أن يفر إلى الله في زمن ظهرت فيه الفتن المتلاطمة التي يوقظ بعضها بعضا، وتساقط فيها خلق كثير ما بين هالك فيها بقلبه أو بلسانه أو بيده.
إنْ مسنا الضرُّ أو ضاقتْ بنا الحيـــلُ فلـــنْ يَخيـــبَ لنا في ربنا أمــــلُ
وإنْ أناخـــــتْ بنــــا البــــــلايا فـإنَّ لنا رباً يحـــــولها عـــــنّا فتنتقــــلُ
اللهُ في كــــلِّ خطــــبٍ حســـــبنا وكفى إليهِ نرفعُ شكــوانا ونبتهــلُ
فافزع إلى الله واقـرع باب رحمتــه فهــو الـرجاء لمن أعيت به السـبل
الإنسان خلق ضعيفا يحتاج إلى من يقويه ويشد أزره والانسان تحيط به الهموم والكروب والشدائد والمحن فهو يحتاج إلى من يفرج همه ويكشف غمه.. فإلى من يلجأ؟ وإلى من يلوذ؟ وبمن يحتمي؟ فكانت الإجابة من عند الله خالقه ومدبر أمره {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}.
لهذا كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نومه: (اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِى إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِى إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِى أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِى أَرْسَلْتَ)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر، فزع إلى الصلاة، قَالَ حُذَيْفَةُ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى". ، وهذا فرار إلى الله.
هكذا كان رسول الله يعيش مع الله وبالله.. وينقاد إلى الله.. ويستسلم لله.. ويفر إلى الله، وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام من قبله يلتجئون إلى الله سبحانه طالبين العون والمدد والحماية منه..
يقول الله عن إبراهيم عليه السلام: {إِنّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99].
حين يتكالب الأعداء علي الاسلام والمسلمين وتقوى شوكتهم ويشتد أمرهم، وحين توجه الضربات تلو الضربات للإسلام وأهله، والمسلمون في حالة من الخذلان والضعف، فإنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فهو يجير ولا يجار عليه.
انظروا.. لما كان يوم الأحزاب واشتد الأمر وذَهلت الألباب وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدًا، لم يكن للرسول وأصحابه إلا الالتجاء إلى الله والاعتصام به..
وفي الصحيحين دعا رسول الله على الأحزاب، فعن ابْنَ أَبِى أَوْفَى رضى الله عنهما قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الأَحْزَابِ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الأَحْزَابَ، اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ).
فأجاب الله عبده ونصر جنده وهزم الأحزاب وحده.
وأرسل الله عز وجل على الأحزاب ريحًا كفأت قدورهم، واقتلعت خيامهم، نعم، {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
4- ثمرات الفرار إلى الله
راحة القلب: فالقلب مركز التحكم للجسد فإذا اطمئن سعد الجسد كله، وهو محط نظر الرحمن حيث أن الله لا ينظر إلا أجسادنا ولا إلى أموالنا ولكن ينظر إلى قلوبنا، ففر إلى الله بذكره ليطمئن قلبك، {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
قرة العين: وقرة العين وهناءتها لا يملكها إلا الله فالجأ إليه وسله أن يحقق لك ذلك، {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74].
سكينة النفس: هذه السكينة تسعد بها ولو فقدت كل شيء وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء، هي جنةٌ معجلة، في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 6].
ذاقوا طعمها في الدنيا، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ماذا يفعل أعدائي بي؟ إن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة، فماذا يفعل أعدائي بي؟".
الفرار إلى الله جنةٌ معجلة، نعيمٌ يتجدد رغم المشقات التي يعانيها المؤمن، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت :69].