مقدمة:
كانت الكلمةُ لها سحرَها في التأثير، وكان البليغُ في الكلام كالساحر يقلِبُ الحقَّ باطلاً والباطلَ حقاً بقوة بيانه، لذا ورد: (إنّ من البيان لسحراً)
ولما كان هؤلاء بصناعتهم تلك صناعةِ الكلمةِ يملكون من القدرة على التوجيه والتأثير والإقناع والترويج لكثيرٍ من المفاهيم والأفكار كان الهديُ النبويُ يستشرفُ المستقبلَ فيحذِّرُ منهم، كما جاء في الحديث: (إنّ أخوفَ ما أخافُ على أمتي كلَّ منافقٍ عليمِ اللسان)
ونلحظ في الحديث أنه أشار إلى علمِ هذا الرجل المنافقِ المزيِّنِ للباطل بقوةِ فصاحته وسحرِ كلمته، لأنّ أكثرَ ما يقع التغريرُ بمثل هؤلاء (عليم اللسان) فحذّر منه صلى الله عليه وسلم.
ونحن اليومَ في زمانٍ لم تعُدِ الكلمةُ كلمةً فحسب! بل تحولت الكلمةُ من قصيدةٍ لشاعرٍ أو خطبةٍ لناثرٍ إلى وسائلَ حديثةٍ إلى صناعةٍ كاملةِ الأدواتِ، صناعةِ الوعي والقيم، صناعةٍ تمتلك من الأدوات ما يوجّه الأفرادَ والشعوبَ.
فأصبحت الكلمةُ مقروءةً ومسموعةً ومرئيةً ومصوَّرة، فاختُرعَت وسائلُ الإعلامِ المتنوعةِ لإِيصالِ الكلمةِ إلى الناسِ، ومعَ مُرورِ الزمنِ استمرت الطريقةُ وتغيَّر الهدف إلى توجيهِ عقولِ الناسِ، وجذبِ اهتماهِم وتَغيير عَادَاتِهم.
وفي الحديث عن المصطفى: (إنّ بين يدي الساعة كذّابين فاحذروهم)
فاليومَ بلغ تأثيرُ ظاهرةِ الدجالين مبلغاً أعظمَ، حيث صار بالإمكان في ثورةِ صناعةِ الإعلامِ مخاطبتُك في بيتك وخلوتك وغرفةِ نومك.. لم يعد لك خصوصيةٌ، ولم يعد هناك وقتٌ خاصٌ ومكانٌ خاصٌ للوصول إليك ومخاطبتك ومحاورتك! بل هي تهجم عليك في كلِّ وقتٍ، وفي أيِّ مكانٍ، وعلى أيِّ حالٍ كنت!
ولو أضفنا إلى ذلك ما اختُرع من فنون التأثير والإيحاء والإيماء لتيقنّا أننا اليومَ في عصرِ سحرِ صناعةِ المفاهيمِ وتوجيهِ المجتمعات، ولأيقنّا مدى أهميةِ حصانةِ الأفكار والمبادئ والوعي.
ومع انتشار وسائل الإعلام والاتصال بات بإمكان مَن شاء أن يقول ويبثَّ من الأفكار والأخبار ما شاء، مما يفتح الباب على مصراعيه أمام الكذَبة والدجالين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذاباً دجالاً كلهم يكذب على الله وعلى رسوله). أي: يتحدث بالأحاديث الموضوعة الكاذبة.
وكلُّ كذابٍ فهو دجال، وقيل: الدجال المموه للحقّ، يقال دجل فلان، إذا موّه، ودجل الحق بباطله اذا غطاه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم، ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم، ولا يفتنونكم).
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليكونن قبل يوم القيامة المسيح الدجال، وكذابون ثلاثون أو أكثر).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (سيكون في أمتي دجالون كذابون، يأتونكم ببدع من الحديث، بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم لا يفتنونكم).
وواضحُ من هذه الأحاديث أنهم (يأتونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم) الإشارة إلى هجومهم على المبادئ، ربما بحجة التجديد، أو بحجة الإصلاح، وربما بهيئة أهل العلم والشريعة! وبهذا يعظم خطرهم، فهم (يأتونكم بما لم تسمعوا) أي تكون غارتهم على مبادئكم ووعيكم.
واليومَ لو تأملنا في كثيرٍ مما حولَنا مما تضجُّ به وسائل الإعلام والتواصل، لوقفنا حائرين في خضمِّ تلاطُمِ الأفكار والمبادئ، وكلُّها باسم الدين والإصلاح والحرص على الأمة!!
وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل، فيأتي القوم، فيحدثهم بالحديث من الكذب، فيتفرقون، فيقول الرجل منهم: سمعت رجلا أعرف وجهه، ولا أدري ما اسمه يحدث).
في هذا الحديث توجيهٌ مهمٌ لكشفِ تلبيسِ هؤلاء وصدّ غارتهم وعاديتهم على قيمنا ومبادئنا ووعينا، وذلك في قوله في الحديث: (فيقول الرجل منهم: سمعت رجلا أعرف وجهه، ولا أدري ما اسمه يحدث)، إشارةً إلى أن هؤلاء مجاهيل من حيث النسب في العلم، والنصح للدين والأمة، فإن كانوا كذلك فلا يُلتفت إليهم حتى تزول جهالتهم، وذلك بطرق عدة أهمها: معرفة تاريخهم وسابقهم، وكذلك تزكية أهل العلم المعتبرين لهم.
واليومَ هؤلاء صاروا ينظّرون بمفاهيم كثيرة، أورثت اللبس على الأمة، وضيّعت كثيراً من شبابنا، وسممت الأفكار، بسبب هذه الفوضى وتسيّد هؤلاء الدجالين: استُحلت الدماء، واستُبيحت الأعراض، وتم تبرير ُكثيرٍ من المفاهيم العمانية والإلحادية، وشُوّهت مفاهيمُ الدين، ولُبّست على الناس كثيرٌ من أحكامه، ولاتزال الأيامُ تطلعنا على سيلٍ متدفقٍ متجددٍ مِن سيلِ هذا الطائفة، التي يمكن أن نسميها "ظاهرة الدجالين الثلاثين" وإنها لم تعُدْ ثلاثين فقط!
ومما يبين خطورةَ هذه الأمواج العاتية من الفتن سرعتُها، بحيث يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً! ويصوّر عليه الصلاة والسلام شدةَ تعقُّدها بأنها كقطع الدُّخان، كما في حديث الضحاك بن قيس قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم، فتناً كقطع الدخان يموت فيها قلبُ الرجل كما يموت بدنه، يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع فيها أقوام خَلاقهم ودينهم بَعرَض من الدنيا).
ولعل مما يجول في الذهن من تساؤلات بعد معرفة خطورة هذه الظاهرة: كيف تكون الوقاية؟
إنّ من أنجع أساليب الوقاية، هو التثبت والتأكّد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94].
ومما جاء في التثبت والتبين في الكلام، سماعًا كان أم تحديثًا، ما جاء عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ).
قال النووي رحمه الله: "معنى الحديث والآثار التي في الباب ففيها الزجر عن التحديث بكل ما سمع الإنسان فإنه يسمع في العادة الصدق والكذب فإذا حدث بكل ما سمع فقد كذب لإخباره بما لم يكن وقد تقدم أن مذهب أهل الحق أن الكذب الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو ولا يشترط فيه التعمد لكن التعمد شرط في كونه إثما والله أعلم".
ولو تأملنا في حال كثير ممن تنطلي عليهم كثير من هذه التلبيسات لوجدنا أنّ التهور وعدم التأني بفهم معاني الكلام ومقاصده سبب كثير من الانزلاقات والانحرافات، لذا جاءت أحاديث كثيرة في بيان شر التهور وعدم التبين في الكلام: كما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ)
وقد روي عن الإمام الشافعيّ قوله: "إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة".
وهذا التثبّت والتأنّي مما هو محبب عند الله، ومما جاء في التأني، الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (التَّأَنِّي مِنَ اللهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ).
وعن عبد اللَّه بن سرجس المُزنِي رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (السَّمْتُ الحَسَنُ، وَالتُّؤَدَةُ وَالِاقْتِصَادُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ).
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ تَأَنَّى أَصَابَ، أَوْ كَادَ، وَمَنْ عَجَّلَ أَخْطَأَ، أَوْ كَادَ).
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَشَجِّ، أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: (إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ).
فما أشدّ حاجتَنا اليومَ إلى ونحن نعيش مرحلةً خطيرةً من أطوار ثورتنا، من التثبت من أخبار وأفكارِ وشخصياتٍ كثيرة، ولا نغتر بكثرة البهرجة والتزييف والتلميع والدعايات الملبِّسة.
وإنّ مما يعصم من فتنة تلاطم الأفكار والمبادئ وزخم التضليل والتلبيس الالتجاءَ إلى الله، والإكثارَ من العبادة، كما في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيْهَا مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِناً وَيُصْبِحُ كَافِراً، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا).
ويشهد لذلك أيضا حديث أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعاً يقول: (سبحان الله ماذا أنزل الله من الخزائن وماذا أنزل من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات، يريد أزواجه، لكي يصلين؟ رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة).
فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أوحي إليه بما سيكون من الفتن بعده إلى الصلاة، فالعبادة حجابٌ للعبد من الفتن، وفي حديث أبي هريرة: (ابدروا بالفتن أعمالاً كقطع الليل المظلم" إشارةٌ إلى أنّ مَن قلَّ عملُه كانت الفتنة إليه أسرع، وأنّ مَن كثُر عملُه ينبغي ألا يغترَّ بما عنده بل يستزيد).