1- الشورى من أخص صفات المؤمنين
2- الشورى وتربية الأمة للقيادة الرشيدة
3- الشورى جِماعُ أمرِنا كلِّه
4- الشورى منهج حياة
5- مجتمع بلا شورى!!
1- الشورى من أخص صفات المؤمنين
لقد وصف الله المؤمنين الذين استجابوا لربهم، بعد ماعدّد أوصافهم الجميلة في امتثالهم لأمره سبحانه، أنّ (أمرهم شورى بينهم) فقال سبحانه: {فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} [الشورى: 36-39].
فذكر الشورى من بين الصفات الأساسية التي يوصف بها المجتمع المسلم، وهذا له دلالة عظيمة، ووضعُها بين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة له دلالتُهُ أيضاً في تأكيد هذا الأمر وإعلااء شأنه، ليس في استحسان هذا الأمر بل في فرضيته وتحتيم الأمر به، حيث يذكره سبحانه بين الفرائض، لا بين المندوبات ولا المستحبات!.
ومما يعزّز هذا ويؤكِّدُهُ ما جاء في سورة آل عمران بشأن معركة أحد، حيث استشار الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة فكان رأيُ الشيوخ المجرِّبين من أهل المدينة ألا يخرجَ الجيشُ لملاقاة العدو خارجَ المدينة، بل ينتظرهم فيها حتى يأتوا، فإذا جاؤوا سهُلَتْ هزيمتُهُمْ داخلَ المدينة بغيرِ جهدٍ كبيرٍ ولا خسائرَ كبيرةً، ولكنّ شوقَ الشبابِ إلى الجهاد في سبيل الله، جعلهم يُلِحُّون على الرسول صلى الله عليه وسلم أنْ يخرجَ بهم لملاقاة العدو حيث هم خارج المدينة، وقد استجاب الرسول صلى الله عليه وسلم لرغبة الشباب وخرج لملاقاة العدو خارج المدينة، وكان النصرُ حليفَ المسلمين في بدء المعركة، ولكنْ حين وقعتِ المخالفةُ من الفريق المكلّف بحماية ظهر المسلمين مِنْ فوقِ جبلِ الرماةِ، ظناً منهم أنّ المعركةَ انتهتْ لصالحهم، فنزلوا من فوق الجبل مخالفين بذلك أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يغادروا أماكنهم ولو رأوا جندَ المسلمين تَتَخَطَّفُهُمُ الطيرُ، فالتفَّ عليهم خالدُ بنُ الوليد القائدُ المحنَّكُ، ولم يكنْ أسلمَ بعدُ، فانتهز الفرصةَ واستدار حولَ جبلِ أحدٍ وكَرّ على المسلمين كرةً شديدةً وهم بغير حمايةٍ مِن ضاربي النّبل على الجبل، فأصاب المسلمين ماأصابهم من الهزيمة، واستشهادِ سبعينَ مِن الصحابة رضوانُ اللهِ عليهم، مِن بينهم سيدُ الشهداءِ حمزةُ رضي الله عنه، وكُسرتْ رُباعيةُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم.
2- الشورى وتربية الأمة للقيادة الرشيدة
العبرةُ من هذا أنّ هذه النهايةَ الأليمةَ التي انتهتْ إليها المعركةُ لم تكنْ لتَهُزَّ مبدأَ الشورى، فقد كان يمكن أنْ يخطُرَ في النفوس أنّ استجابةَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم لإلحاح الشباب هو الذي أدى لهذه الهزيمة الأليمة، وأنْ لو كان الرسولُ صلى الله عليه وسلم بقي في المدينة كما كان رأيُ شيوخِ الصحابة، لكانت السلامةُ ولما وقعتْ تلك الهزيمةُ! وما كانوا ليفقدوا مَن فَقَدوا مِن إخوانهم! ولكنْ لِنَنْظُرْ إلى مانزل من الوحي بعد هذه المعركة قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 59].
فإنه يؤكّد بعد ما حصل على: {وشاورهم في الأمر}.
فما أبلغ هذا أن يجيء بعد ما كان يُتوقع أنْ تكون هناك مراجعةٌ أو معاتبةٌ للشورى التي قد يُتوهّمُ أنها أدتْ لهذه الهزيمة!
فهي تدلُّ على عمقِ هذا المبدأ وهذه القيمةِ في التربية الإسلامية، ومدى عمقِها وأهميتِها في الممارسة في المجتمع المسلم.
فنجد في هذه الآيات والبيان الرائع تأصيلَ أنّ أصلَ النظام الذي تقوم عليه حياة المجتمع المسلم -وهو الشورى- يؤمر به في الموضع الذي كان للشورى -في ظاهر الأمر- نتائج مريرة!
ولقد كان مِن حَقِ القيادة النبوية أنْ تنبُذَ مبدأ الشورى كلَّه بعد المعركة أمامَ ما أَحْدَثَتْهُ مِنَ انقسامٍ في الصفوف في أحرج الظروف، وأمامَ النتائجِ المريرةِ التي انتهتْ إليها المعركة!
ولكنّ الإسلامَ كان ينشئ أمةً، ويربّيها، ويُعِدُّها لقيادة البشرية، وكان الله يعلم أنّ خيرَ وسيلةٍ لتربية الأممِ وإعدادها للقيادة الرشيدة، أنْ تُرَبّى بالشورى، وأنْ تُدَرَّبَ على حمل التَّبِعَةِ، وأنْ تُخطئ -مهما يكنِ الخطأُ جسيماً وذا نتائجَ مريرةً- لتعرف كيف تُصَحِّحُ خَطَأها، وكيف تَحْتَمِلُ تبعاتِ رأيها وتصرِّفِها، فهي لا تتعلّمُ الصوابَ إلا إذا زاولتِ الخطأ؛ والخسائرُ لا تَهُمُّ إذا كانتِ الحصيلةُ هي إنشاءَ الأمةِ المدرَّبةِ المدركةِ المقدِّرةِ للتَّبِعَةِ، واختصارُ الأخطاءِ والعثرات والخسائر في حياة الأمة ليس فيها شيءٌ من الكسب لها، إذا كانت نتيجتُهُ أنْ تظلَّ هذه الأمة قاصرةً كالطفل تحت الوصاية.
إنها في هذه الحالة تتقي خسائرَ ماديةً وتُحقِّقُ مكاسبَ ماديةً، ولكنها تخسرُ نفسها، وتخسرُ وجودها، وتخسرُ تربيتها، وتخسرُ تدريبها على الحياة الواقعية، كالطفل الذي يُمنع من مزاولة المشي -مثلا- لتوفير العثرات والخبطات، أو توفير الحذاء!
ولو كان وجودُ القيادةِ الراشدةِ يمنعُ الشورى، ويمنعُ تدريبَ الأمةِ عليها تدريباً عملياً واقعياً في أخطر الشؤون - كمعركة أحدٍ التي قد تُقرِّرُ مصيرَ الأمةِ المسلمةِ نهائياً، وهي أمةٌ ناشئةٌ تحيطُ بها العداواتُ والأخطارُ مِن كلِّ جانبٍ - ويَحلُّ للقيادة أنْ تستقلَّ بالأمر وله كلُّ هذه الخطورة - لو كان وجودُ القيادةِ الراشدةِ في الأمة يكفي ويَسُدُّ مَسَدَّ مزاولةِ الشورى في أخطر الشؤون، لكان وجودُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ومعه الوحيُ من الله سبحانه وتعالى -كافياً لحرمان الجماعةِ المسلمةِ يومَها مِنْ حقِّ الشورى!- وبخاصةٍ على ضوء النتائج المريرة التي صاحبتها في ظلِّ الملابسات الخطيرة لنشأة الأمة المسلمة.
ولكنّ وجودَ محمدٍ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ومعه الوحي الإلهي ووقوعُ تلك الأحداث، ووجودُ تلك الملابسات، لم يُلْغِ هذا الحقَّ، لأنّ الله -سبحانه- يعلَمُ أنْ لا بدّ مِن مزاولته في أخطر الشؤون، ومهما تكنِ النتائجُ، ومهما تكنِ الخسائرُ، ومهما يكنِ انقسامُ الصفِّ، ومهما تكنِ التضحياتُ المريرةُ، ومهما تكنِ الأخطارُ المحيطةُ.. لأنّ هذه كلّها جزئياتٌ لا تقوم أمامَ إنشاءِ الأمةِ الراشدةِ، المدرَّبةِ بالفعل على الحياة، المدركةِ لتبعات الرأيِ والعملِ، الواعيةِ لنتائج الرأي والعمل.. ومن هنا جاء هذا الأمرُ الإلهيُّ، في هذا الوقت بالذات: {فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر}.
3- الشورى جِماعُ أمرِنا كلِّه
ولقد ذكرتْ كتبُ السيرة كيف أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يُكثِرُ مِن مشاورة أصحابه، وهذه إشارةٌ بليغةٌ على عُمقِ هذا المبدأ في حياة المجتمع المسلم.
فالشورى هي الأداة المثلى لإعداد الأفرادِ ليكونوا قادةً يَحملون الرسالةَ ويرفعون الراية، فحين يجتمع القائدُ مع أنصاره فيشاورهم تتبيّنُ معادنُ الناسِ، وههنا في غزوةِ أحدٍ يترك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رأيَ شيوخِ الصحابة لرأي أكثريةِ شبابِ الصحابة، رضوان الله عليهم جميعاً، فهذه مِن تربيةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فهو يؤسِّسُ بذلك لمجتمعٍ مسلمٍ سليمٍ مِن الاستبدادِ بالرأي وقهرِ الكلمةِ، واستعبادِ إرادةِ الناسِ وازدراءِ عقولِهِمْ وخبراتهِمْ وإمكاناتهِمْ!
وكذلك كان يشاورُ صلى الله عليه وسلم حتى في خاصةِ بيتِهِ، وعلى الملأ من الناس، فمِن ذلك مثلاً مشاورتُهُ للصحابة في قصةِ وحادثةِ الإفكِ فوقف خطيباً على المنبر ثم قال: (يا معشر المسلمين من يعذرني مِن رجلٍ قد بلغني عنه أذاهُ في أهلي والله ما علمتُ على أهلي إلا خيراً ولقد ذكروا رجلاً ما علمتُ عليه إلا خيراً وما يدخُلُ على أهلي إلا معي).
وقد جاء في الترمذي: (ما رأيت أحداً أشد مشورة لأصحابه من محمد).
وقد كان صلى الله عليه وسلم يمارسُ الشورى في أغلبِ شأنِهِ، حتى مع زوجاتِهِ في بيته، اسْتَشَارَ السيدةَ أمَّ سلمة و هي زوجُهُ في امتناعِ صحابتِهِ عن التَّحَلُّلِ مِنْ إحرامهمْ يومَ الصُّلحِ، فدخل صلى الله عليه وسلم على أم سلمة فقال لها: (هلك المسلمون أمرتهم أن يحلقوا وينحروا فلم يفعلوا) قال: فجلى الله عنهم يومئذ بأم سلمة، قوله: قالت أم سلمة: يا نبي الله أتحِبُّ ذلك اخرُجْ ثم لا تُكَلِّمْ أحداً منهم... وعرف النبي صلى الله عليه وسلم صوابَ ما أشارت به فَفَعَلَهُ، فلما رأى الصحابة ذلك بادروا إلى فِعْلِ ما أَمَرَهُمْ به إذْ لم يَبِقَ بعدَ ذلك غايةٌ تُنتظرْ.
فالشورى قيمةٌ عامةٌ شاملةٌ، تكون في شؤون الدولة، وفي شؤون المجتمع، وفي شؤون الأسرة، فهي مبدأ تربوي شامل.
واليومَ تقلَّصَ واقعنا عن مبدأ الشورى، وتجلى واضحاً الاعتزازُ بالرأي الواحد، وازدراءُ آراءِ الآخرين، وعدمُ اعتبارِ مالديهم مِن تميُّزٍ وتفوُّقٍ، فبدَتْ آثارُهُ السلبيةُ واضحةً على جميع المستويات وفي جميع المجالات بدءً من الأسرة..
إنّ التشاورَ في الأمر يفتحُ مغاليقَهُ، ويُتيح النظرَ إليه مِن مختلفِ زواياه، بمقتضى اختلاف اهتمامات الأفراد، واختلاف مداركهم وثقافتهم، وبهذا يكون الحكمُ على الأمر مبنياً على تصورٍ شاملٍ.
فالإنسانُ بالشورى يُضيفُ إلى عقله عقولَ الآخرين، وإلى علمه علومَ الآخرين، وفي هذا يقول الشاعرُ العربيُّ:
إذا بَلَـــغَ الرأيُّ المشــورَةَ فاســــْتَعِنْ برأيِ نصيحٍ أو نصيحةِ حازمِ
ولا تَحْسَبِ الشورى عليكَ غَضَاضَةً فإنَّ الخــوافيَ قــــوةٌ للقـــوادمِ
4- الشورى منهج حياة
ولو تتبعنا صورَ الشورى التي جاء بها هديُ الإسلامِ لرأينا عجباً، ابتداءً مِن الفردِ إلى الأسرةِ إلى شؤونِ الدولةِ:
أما على مستوى الفردِ: فقد عزّزَ الإسلامُ الشورى لدى الفردِ في شؤونه الخاصة، روى الإمام أحمد وحسّنَ إسنادَه ابنُ حجر عن سعد رضي الله عنه أن رسول الله قال: (مِن سعادةِ ابن آدم استخارتُه الله)، وورد عن السلف قولهم: "ما ندم من استشار، ولا خاب من استخار".
وفي مجال الأسرة: يدعو الإسلام إلى أنْ تقومَ الحياةُ الأسريةُ على أساسٍ مِن التشاورِ والتراضي.
وذلك منذ بدايةِ تكوينِ الأسرةِ، ولهذا رَفَضَتْ نصوصُ الشريعةِ أنْ يستبدَّ الأبُ بتزويجِ ابنتِهِ – ولو كانتْ بِكراً– دونَ أنْ يأخذَ رأيَها، وأوجبَ التوجيهُ النبويُّ أنْ تُستأذَنَ البِكرُ، وإنْ كانت تستحيي، فجعلَ إذنَها صِماتَها، فإنّ سكوتَها عند عرضِ الأمرِ عليها دليلٌ على الرضا والقبول.
وقد ردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعضَ عقودِ الزواجِ التي تمّتْ بغير إرادةِ البنتِ، لأنّ الشرعَ لمْ يُجِزْ لأحدٍ أنْ يتصرّفَ في مالها وملكها بغير إذنها، فكيف بمصيرها ومستقبلِ حياتها؟! بل رغّبَتِ السنةُ آباءَ البناتِ أنْ يشاوروا أمهاتِ بناتهن في أمرِ زواجهن، أي يشاورُ الرجلُ زوجتَهُ عند تزويجِ ابنتهما، وفي هذا جاء الحديث الذي رواه الإمام أحمد: (آمروا النساءَ في بناتهن)، وذلك أنّ الأمَّ أعلمُ بابنتها من الأب، والبنتُ تبوحُ لأمها عن أسرارها بما لا تجرؤ أنْ تبوحَ به لوالدها.
وقد لجأَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى زوجه خديجة رضي الله عنها في الساعات الأولى للوحي، حيث كان يرتجِفُ مِن هولِ ما نزل عليه، فاستشارها فكانتْ له نعمَ الرأيِ والعونِ والمشير.
ومن الروائع القرآنية في هذا: التنبيهُ على ضرورةِ التشاورِ والتراضي بين الزوجين فيما يتعلقُ برضاعِ الأولادِ وفِطامِهِمْ، ولو بعدَ الانفصالِ بينهما، يقول تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233].
إلى أن قال: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة:233].
5- مجتمع بلا شورى!!
ولو نظرنا في الصورة التي تقابلُ الشورى لرأينا صورةً سوداءَ كالحةً، وقد ذكر القرآنُ طرفاً من ذلك، فلقد صوّر القرآنُ صورةً مظلمةً عن الحكم الذي يقومُ على التألُّهِ والتسلُّطِ والرأيِ الواحدِ، مثلَ حكمِ فرعونَ الذي قال للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}، {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، والذي لا يستشيرُ في الأمور الهامة إلا بطانَتَهُ الخاصةَ، كما رأينا ذلك في قصة فرعون مع موسى حاور فرعونَ فأفحمَهُ، فهدّدَهُ بالسجن، فقال موسى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}.
فهذه ليست استشارةً حقيقيةً، لأنها تخُصُّ (الملأ حوله) فقط، ثم هي استشارَةٌ موجِّهة، فهو لا يأخُذُ رأيَهُمْ في شأنِ موسى وماذا تكونُ رسالتُهُ، وما حقيقةُ أمرِهِ؟ بل حَكَمَ عليه قبل أنْ يسألَهُمُ الرأيَ: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ}.
وقد بيَّن القرآنُ حقيقةَ حكمِ فرعونَ وموقفَهُ مِن رعيَّتِهِ حين قال: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}.
فهذا (العلو) في الأرض هو (الطغيان). وقد كرّرَ القرآنُ ذلك في وصفِ فرعونَ: {إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ}، ولم يكنْ علُوُّ فرعونَ وطغيانُهُ على بني إسرائيل وحدَهُمْ، بل على المصريين أيضاً، إذا خطر لأحدهم أو لفئة منهم أن يخرجوا عن خطة، ويتمردوا على ربوبيته، وهذا ما تجلى واضحاً في موقفه من السحرة الذين جَلَبَهُمْ مِن كلِّ صوبٍ لينصروه على موسى، بعد أنْ تبيَّنَ لهم، حين آمنوا برب هارون وموسى، بعد أن تبين لهم الحق من الباطل، {قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أجمعين} [الشعراء:49].
وانظر إلى قوله: {آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ} إنه يريد أن يَحْجُرَ على عقولِ الناسِ وقلوبهم، فلا يجوزُ لعقلٍ أنْ يقتنعَ بشيءٍ ولا لقلبٍ أنْ يؤمنَ بأمرٍ، إلا بإذنه وبعد تصريحٍ منه!!