1- أعظَمُ الحلمِ!
2- الحِلمُ من أركان المجتمع الفاضل
3- الحِلمُ سموٌ بالنفس في علياء
4- الحلم أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة
5- من لم يكن حيماً فليتحالم
6- الحِلم والأناة لا يفترقان
1- أعظَمُ الحلمِ!
ما عُرف على هذه البسيطة مظلومٌ من البشر تواطأ الناسُ على ظلمه وما فتئوا يصفونه بأحدّ ما وُضِع من ألفاظٍ مُسِفَّةٍ على كمالٍ في عقلِهِ ونورٍ في دعوتِهِ وصدقٍ في حديثِهِ وثِقةٍ في أمانتِهِ مِثلَ رسولِ اللهِ صلوات الله وسلامه عليه، فلقد نالِ الشتائمَ والسُّبابَ من كافةِ طبقاتِ المجتمعِ، فقد هجاهُ شعراءُ، وسخِرَ منه سادةٌ، وآذاهُ عتارِسَةٌ، ونالَ منه سَحَرةٌ. ولقد شاءَ اللُه سبحانه أنْ يأتيَ اليومُ الموعودُ الذي يَفتحُ اللهُ به على نبيِّهِ بمكةَ، حتى إذا ما دخلَ البيت وطافَ جلسَ في المسجد الحرامِ والناسُ مِنْ حولِهِ، والعيونُ شاخصةٌ إليه، والقومُ مشرئبّون إلى معرفةِ صنيعِهِ بأعدائِهِ، فقال كلمتَهُ المشهورةَ: (يا معشرَ قريشٍ، ما تظُنُّونَ أني فاعلٌ بكم؟)، قالوا: خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ، قال: (فإني أقولُ لكم ما قالَ يوسفُ لإخوته: لا تثريبَ عليكم اليومَ، اذهبوا فأنتم الطلقاءُ)، فيُسلِمُ حينها العظماءُ ويتوبون كأمثالِ هندٍ بنتِ عتبةَ وعكرمةَ بنِ أبي جهلٍ، ويؤوبُ الشعراءُ ويعتذرون إليه ككعبِ بنِ زهيرٍ، فلا ينالُ الجميعُ منه إلا العفوَ والتغاضي.
فما أجملَ العفوَ عند المقدرةِ، وما أجملَ السعةَ عند الضيقِ والعزّةَ عند الذلةِ.. ولقد صدقَ اللهُ إذْ يقولُ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
2- الحِلمُ من أركان المجتمع الفاضل
لقد كَفْكَفَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ نزواتِ الجاهليةِ، وأقامَ أركانَ المجتمعِ على الفضلِ وحسنِ التخلُّق ونبذِ الجهلِ والغضبِ.
وإنّ مِنْ أكملِ الأخلاقِ وأعظمِها هو الحِلْمُ والأناةُ، حتى قيل عن الحِلم: سيّدُ الأخلاقِ.
الحِلمُ أساسُ الأخلاقِ ودليلُ كمالِ العقلِ وامتلاكِ النفسِ؛ والمتّصفُ به عظيمُ الشأنِ رفيعُ المكانةِ محمودُ العاقبةِ مرضيُّ الفعلِ.
بل أَخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنّ هذين الخُلُقينِ يحبُّهما اللهُ؛ واختصاصُهما بالذكر لمحبة اللهِ لهما دليلٌ على مزيّةِ هذين الخُلُقينِ على غيرهما من الأخلاق.
روى أهل السير: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ رضي الله عنهم، إِذْ قَالَ لَهُمْ: (سَيَطْلُعُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ رَكْبٌ هُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ)، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَتَوَجَّهَ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ، فَلَقِيَ ثَلاثَةَ عَشَرَ رَاكِبًا فَرَحَّبَ وَقَرَّبَ، وَقَالَ: مَنِ الْقَوْمُ؟ فَقَالُوا: نَفَرٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَقَالَ: مَا أَقْدَمَكُمْ هَذِهِ الْبِلادَ؟ التِّجَارَةُ؟ أَتَبِيعُونَ سُيُوفَكُمْ هَذِهِ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فَلَعَلَّكُمْ إِنَّمَا قَدِمْتُمْ فِي طَلَبِ هَذَا الرَّجُلِ، فَمَشَى مَعَهُمْ يُحَدِّثُهُمْ، حَتَّى إِذَا نَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: هَذَا صَاحِبُكُمُ الَّذِي تَطْلُبُونَ، فَرَمَى الْقَوْمُ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ رِحَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يُهَرْوِلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَشَى، حَتَّى أَتَوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وسلموا، وَقَعَدُوا إِلَيْهِ، حَتَّى بَقِيَ الأَشَجُّ، وَهُوَ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَأَنَاخَ الإِبِلَ وَعَقَلَهَا، وَجَمَعَ مَتَاعَ الْقَوْمِ.
وفي رواية عند أحمد: ثُمَّ نَزَلَ الأَشَجُّ فَعَقَلَ رَاحِلَتَهُ، وَأَخْرَجَ عَيْبَتَهُ -وعاء الملابس- فَفَتَحَهَا وَأَخْرَجَ ثَوْبَيْنِ أَبْيَضَيْنِ مِنْ ثِيَابِهِ فَلَبِسَهُمَا، ثُمَّ أَقْبَلَ يَمْشِي عَلَى تُؤَدَةٍ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فسلَّمَ.
وفي رواية: فأجلسه النبيُّ إلى جانبه، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ). قَالَ: فَمَا هُمَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (الأَنَاةُ وَالتُّؤَدَةُ)، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَجَبَلٌ جُبِلْتُ عَلَيْهِ أَمْ تَخُلُّقًا مِنِّي؟ قَالَ: (لا، بَلْ جُبِلْتَ عَلَيْهِ)، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى مَا يُحِبُّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم.
وفي مسلم: عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لِلأَشَجِّ، أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ، (إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ).
على مرِّ التاريخِ اشتهرَ أُناسٌ كُثُرٌ بالحِلمِ والكرم ورجاحةِ الرأيِ؛ ومِنْ أشهرهم: الأحنفُ بنُ قيسٍ؛ حيث كان من أشدِّ الناسِ سلطاناً على نفسه، وكان مضرباً للمثل في الحِلم فيقال: أَحْلَمُ مِنَ الأحنفِ!
وقيل له ذاتَ مرةٍ: ممنْ تعلمتَ الحِلمَ؟ قال: مِنْ قيسِ بنِ عاصمٍ المنقري، رأيتُهُ قاعداً بفناءِ دارِهِ، مُحتبياً بحمائلِ سيفِهِ يُحدّث قومَهُ، حتى أُتي برجلٍ مكتوفٍ ورجلٍ مقتولٍ، قيل له: هذا ابنُ أخيك قَتَلَ ابنَكَ، فوالله ما حلَّ حبوتَهُ، ولا قَطَعَ كلامَهُ، ثم التفتَ إلى ابنِ أخيه الذي قَتَلَ ابنَهُ، وقال له: يا ابنَ أخي أسأتَ إلى رحمِكَ، ورميتَ نفسَكَ بسهمِكَ، وقَتلتَ ابنَ عمِّكَ. ثم قال لابنٍ آخرَ له كان بجانبه: قُمْ يابنيَّ فحُلَّ كتافَ ابنِ عمِّكَ، ووارِ أخاك، وسُقْ إلى أمِّهِ مئةَ ناقةٍ ديةَ ابنِها فإنها غريبةٌ، ولعلها تسلو عنه.
ويُروى أنّ الخليفة عمرَ بنَ عبدِالعزيزِ خرج ذاتَ ليلةٍ يتفقّدُ أحوالَ رعيّتِهِ مع صاحبِ شرطتِهِ، فدخلا مسجداً مظلماً، فتعثّرَ عمرُ برجلٍ نائمٍ، فرفعَ الرجلُ رأسَهُ وقال له: أمجنونٌ أنتَ؟ فقال له عمرُ: لا، وأراد صاحبُ الشرطةِ أنْ يضرِبَ الرجلَ فمنَعَهُ عمرُ وقال: لا تفعلْ، إنما سألني: أمجنونٌ أنت؟ فقلتُ لا.
وهذا يدلُّ على عظمةِ خُلُقِ وحِلمِ الخليفةِ عمرَ بنِ عبدِالعزيزِ، فلمْ يدفعْهُ سلطانُهُ بأنْ يعاقِبَ الرجلَ ويبطِشَ به.
3- الحِلمُ سموٌ بالنفس في علياء
الحِلمُ يسمو بالنفس في العلياء، ويحجز عن صاحبِهِ أقذارَ سيِّئ الطباعِ..
احتمالُ السفيهِ خيرٌ من التحلّي بصورَتِه، والإغضاءُ عن الجاهل خيرٌ من مشاكلَتِه، ومَنْ سكَتَ عن جاهلٍ فقد أوسَعَه جوابًا وأوجعَه عِقابًا.
قال رجلٌ لضِرارِ بنِ القعقاع: واللهِ لو قلتَ لي مسبَّة واحدةً لسمعتَ مني عشرًا، فقال له ضرارُ: لو قلتَ عشرًا لم تسمَع مني واحدةً!
ونبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم لاقى الأذى والسخريةَ من قومِهِ، فكان يقولُ لعائشةَ رضي الله عنها: (لقد لقيتُ من قومك ما لقيتُ)، وملكُ الجبالِ يأتيهِ ويقولُ له: إنْ شئتَ أنْ أُطبِقَ عليهمُ الأخشبينِ فعلتُ، فقال: (بل أرجو أنْ يُخرجَ اللهُ مِن أصلابهم مَنْ يعبُدُ اللهَ وحدَهُ لا يُشرِكْ به شيئاً).
إنّ التفاوتَ بين الناسِ بعيدُ الشُّقةِ مع أنهم مِن أبوينِ اثنين، ففي الناسِ الحليمُ الأريبُ المتأني الذي إذا استنفرَتْه الشدائدُ أبقى على وقْعِها الأليمِ محتفظاً برجاحةِ عقلِهِ وسماحةِ خُلُقِهِ، فلا يفضَحُ نفسَهُ ليتشفَّى مِنْ غيظِهِ، فإنْ جُهِلَ عليهِ لمْ ينفعْهُ إلا حِلمُهُ.
ثم إنّ في الناس الطائشَ الأهوجَ، كما أنّ فيهِمُ الغِرَّ المأفونُ الذي تستخفُّهُ التوافِهُ فيستحمِقُ على عَجَلٍ، ويكون لسانُهُ وفِعلُهُ قبلَ قلبِهِ وعقلِهِ، فلا يزِمّ نفسَه ولا يَتريّثُ، بل يهذي بكلامٍ ويوكِسُ ويُشطِطُ في أفعالٍ يحتاجُ بعدها إلى اعتذارٍ وتلفيقٍ، فيقعُ فيما نهى عنه المصطفى بقوله: (ولا تَكلَّمْ بكلام تعتذر منه غداً).
وإنّ مِنَ الناسِ مَنْ لا يسكت عن الغضب، فهو شخصٌ غَضوبٌ، في ثورةٍ دائمةٍ وتغيُّظٍ يَطبَعُ على وجهِهِ العُبوسَ، إذا مسَّهُ أحدٌ بأذى ارتعشَ كالمحموم، وأنشأ يُرغي ويُزبد ويَلعنُ ويَطعنُ، وكثيراً ما يَذهَبُ به غضبُهُ مذاهبَ حمقاءَ.
4- الحلم أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة
الحلمُ من أوصافِ الأنبياءِ، قال الفضيلُ رحمه الله: "مِن أخلاقِ الأنبياء الحِلمُ والأناةُ وقيام الليل".
ولقد أثنى اللهُ على إبراهيمَ عليه السلام بالحِلم فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيب} [هود:74-75].
وبُشِّر بغلام متّصف بالحلم: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:99-101].
ونوحٌ عليه السلام دعا قومَهُ إلى عبادةِ اللهِ، فجعلوا أصابِعَهُم في آذانهم استكبارًا عليه، وقالوا عنه: {مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ}، فحَلَم عليهم ألفَ سنةٍ إلا خمسين عامًا.
وموسى عليه السلام رماه قومُهُ بالجنونِ وتحدَّوهُ بالسحرِ وائتمروا عليه ليقتلوه، فحَلَمَ عليهم فبرَّأَهُ اللهُ مما قالوا وكان عند الله وجيها.
وحكَى النبيُّ عن نبيٍّ مِنْ الأنبياءِ ضربَهُ قومُهُ فأدْمَوْهُ، فكان يمسحُ الدمَ عن وجهِهِ ويقولُ: (ربّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "الحِلمُ والصبرُ على الأذى والعفوُ عنِ الظلم أفضل أخلاق أهل الدّنيا والآخرة، يبلُغ بها الرجلُ ما لا يبلغه بالصّيام والقِيام".
ومِنْ غضبَ فعليه أنْ يتذكَّرَ حِلمَ اللهِ عليه، وأنْ يخشى عقابَهُ؛ فقدرةُ اللهِ عليك أعظمُ مِن قدرتك على الخلق، وليتذكرْ ما يؤدّي إليه الغضبُ من الندمِ والحسرةِ، وليحذرْ عاقبةَ العداوةِ والانتقامِ وشماتةَ الأعداءِ بمُصابِهِ.
ومَن صفَح عن الخلقِ عفا الله عنه، قال ابن القيم: "يُعامَلُ العبدُ في ذنوبه بمثلِ ما يُعامِلُ به العبدُ الناسَ في ذنوبهم، والجزاءُ من جنس العمل، فمن عفا عفا اللهُ عنه، ومن سامحَ أخاه في إساءته إليه سامحه اللهُ في إساءَته، ومَن أغضى وتجاوز تجاوَز اللهُ عنه، ومن استقصى استقصى الله عليه."
ومن روائع ما يذكر في هذا المقام: قال عبد اللّه بن عبّاس رضي الله عنهما لرجل سبّه: "يا عكرمة، هل للرّجل حاجة فنقضيها؟"، فنكّس الرّجل رأسه واستحيا ممّا رأى من حلمه عليه.
5- من لم يكن حيماً فليتحالم
ومن لم يكنْ حليمًا فعليه أنْ يدفعَ نفسَه للحِلم، قال الأحنفُ: لستُ بحليمٍ ولكني أتحالمُ.
والمرءُ إما أن يكون حليماً مفطوراً على الخير مجبولاً عليه، وهذا كأشجّ عبد القيس الذي قال له رسول الله: (إنّ فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة)، فقال: أشيءٌ تخلقتُ به أم جُبلت عليه يا رسول الله؟ فقال: (لا، بل جُبلت عليه)، فقال: الحمد لله الذي جُبلت على خصلتين يحبهما الله ورسوله.
وإما أنْ يتحالم ويروّضَ نفسَهُ على الحِلمِ والإغضاءِ، فهذا هو الموصوفُ بالشدة والقوةِ في قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديدُ بالصُّرعةِ، ولكنِ الشديدُ الذي يملكُ نفسَهُ عند الغضبِ).
ومِن كمالِ العقلِ مَن إذا غضبَ لم يُدخلْهُ غضبُهُ في باطلٍ، ومَن إذا رضي لم يُخرجْهُ رضاهُ مِن حقٍّ. والعاقلُ يدرأُ عن نفسِهِ غضبَ الناسِ عليه من سخريّةٍ بهم أو استهزاءٍ أو تنقُّصِ مكانتِهم أو تعدٍّ على أموالهم أو وقوعٍ في عِرضهم بغِيبة أو بهتان أو افتراء، فإنّ الغضب إذا ملك ابنَ آدم كان هو الآمر الناهي له، ولهذا المعنى قال الله عز وجل: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ أَخَذَ ٱلألْوَاحَ وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأعراف: 154].
6- الحِلم والأناة لا يفترقان
وإنّ الربطَ بين الحِلمِ والأناةِ فيه إشارةٌ للارتباطِ الوثيقِ بين هذين الخلقين، فإنّ الأناةَ أي التؤدة، هي طريقُ وسبيلُ الحِلمِ، فإنّ ما يمنَعُ الحِلمَ هو التعجُّلُ استجابةً لطيشٍ أو غضبٍ، والحِلم لا يكون إلا بعد التحرُّرِ مِنْ سيطرةِ هذه الغرائز الوضيعة، لذا لا يكون حليماً إلا من كان ذا أناةٍ وتؤدةٍ.
المتأني يكونُ أكثرَ نظرًا وتأملاً لحاله وخطواته التي يخطوها، فتراهُ واثقَ الخطى، بعيدًا عن الترددِ، يعي ماذا يُقْدِمُ عليه، يمحِّصُهُ بالدراسة والتشاور وبُعدِ النظرِ، حتى إذا ما أَقْدَمَ متّكلاً على الله كان أكثر ثباتًا ونجاحًا، ولو وقع في خطأٍ فسرعانَ ما يرجِعُ عنه، غيرَ معاتِبٍ لنفسه ولا قَنوطٍ من ربِّهِ.
ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (السمتُ الحسَنُ والتؤدةُ والاقتصادُ جزءٌ من أربعةٍ وعشرين جزءًا من النبوة).
قال أبو حاتم: "إنّ العاجلَ لا يكادُ يلحَقُ، كما أنَ الرافِقَ لا يكادُ يُسبَقُ، والساكتُ لا يكادُ يندَمُ، ومَنْ نطَقَ لا يكادُ يسلَمُ، وإنّ العَجِلَ يقولُ قبل أنْ يعلَمَ، ويُجيبُ قبل أنْ يَفهَمَ، ويَحمَدُ قبل أنْ يُجرِّبَ".
كم سيخسرُ التاجرُ حينما يتعجّلُ في شراءِ بضاعةٍ ما وهو لا يَخبُرُها، وكم سيتحسّرُ الزوجان حينما يُقدمان على الزواج مِن دونِ رويَّةٍ ولا مشورةٍ ولا تأملٍ! وكم هو الضياعُ كبيرٌ لو عَجِلَ الزوجُ بطلاقِ زوجتِهِ مِن دونِ أنْ يحاورَها ويتحدّثَ إليها بالأدب والخُلُقِ أو يُسنِدَ أمرَهما إلى حكمينِ حكيمين؟ وكم سيأسَفُ الصديقُ حينما يتّهم صديقَهُ بريبةٍ ليس لديه فيها برهانٌ! وهل سيوفَّقُ القاضي لو عَجِلَ في قضائه؟
بل لو سألنا مَن في السجون ماأوصلَكُمْ إلى ماأنتم فيه لقالوا بصوتٍ واحدٍ: "إنا كنا من المستعجلين".
ولنتأملْ كيف يغرسُ صلى الله عليه وسلم هذه الصفةَ في نفس عليٍّ رضي الله عنه حين أرسلَهُ قاضياً إلى اليمن، فعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُرْسِلُنِي وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ وَلَا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ، فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ سَيَهْدِي قَلْبَكَ وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ فَإِذَا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْكَ الْخَصْمَانِ فَلَا تَقْضِيَنَّ حَتَّى تَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ كَمَا سَمِعْتَ مِنْ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَكَ الْقَضَاءُ)، قَالَ فَمَا زِلْتُ قَاضِيًا أَوْ مَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ بَعْدُ.
وأغلظ صلى الله عليه وسلم على المستعجلين في حديث جابر حيث قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: (قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده).