1- تقتلون ابنَ بنتِ رسولِ اللهِ وتسألون عن دم البعوضِ!؟
2- ورعٌ مظلمٌ وتدينٌ مشوهٌ
3- الدين ميزان
4- آفاتُ هذا الورعِ على مجتمعاتنا
1- تقتلون ابنَ بنتِ رسولِ اللهِ وتسألون عن دم البعوضِ!؟
سأل رجلٌ من أهل العراق ابنَ عمر رضي الله عنهما عن دم البعوض، أنجسٌ هو؟ فقال: "سبحان الله، تقتلون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسين بن علي، وتسألون عن دم البعوض؟".
هذه الحادثة تشير إلى شذوذٍ في الشخصية، وتطرّفٍ في التعبد، وانعدامٍ للاتزان سواءٌ النفسي أو الفكري.
حيث يتورّطُ الشخصُ في أعظم الجرائم والموبقات، ثم يتحرّز عن بعض المكروهات!
فمثلُ هذا ليس سببُهُ قلةَ علمٍ أو وعيٍ فحسب، بل له سببٌ أعمقُ من هذا، إنه مرض نفسي، أو سوء تربيةٍ وتنشئةٍ صَبَغَتِ النفسَ بهذا القالب المعوج.
فالرجل الذي يقول لنبينا صلى الله عليه وسلم: اعدلْ يا محمد! حيث يُظهِرُ حرصَهُ على العدل، ثم يَتّهِمُ بالجور مَن علّمه العدلَ ونزلَتْ عليه شريعةُ العدلِ من السماء، ويشافِهُ جبريلَ عليه السلام بكلام الله، فأيُّ ورعٍ هذا!!
لذا واجهه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بجواب يُعيدُهُ إلى جذر المسألة، فقال له: (ويحك فمن يعدلُ إنْ لم أعدِلْ!؟).
حيث بيّن له أنّ ورعَهُ هذا ورعٌ كاذبٌ، يدفعُهُ إلى الحرص على العدل ثم هو يقع في كفر، بل فيما هو مِن أعظمِ الكفرِ إذْ يطعن برسول الله فيتّهمه بالجور وعدم العدل!
روي أنّ رجلاً وجَدَ تمرةً ملقاةً وعرّفها مراراً، ومرادُهُ إظهارُ ورعِهِ وديانتِهِ، فقال له عمر رضي الله عنه: "كُلْها يا باردَ الورعِ، فإنه ورعٌ يُبغِضُهُ اللهُ تعالى"، وضربه بالدرة.
2- ورعٌ مظلمٌ وتدينٌ مشوهٌ
إنّ هذا النوعَ من الشذوذ الذي يَظهَرُ في صورة ورعٍ وزيادةِ حرصٍ قائمٌ على اختلالٍ كبيرٍ في الأولويات، فتجدُهُ تاركاً للواجبات المتحتِّمةِ عليه ثم هو منشغلٌ ببعض الكماليات، أو متورطٌ ببعض المحرمات ثم هو يتنزه عن البعض المكروهات؛ كمن تجِدُهُ يترُكُ الساحة والتأثير بحجة الانزواء والخمول والعزلة، وأنّ هذا عصر الفتن، والأفضل للمسلم أن يأخذ غَنَمَهُ في شَعَفِ الجبال ومواقع القَطْرِ، يفِرُّ بدينه من الفتن، فيُقبل على صلاة الضحى، وصيام ثلاثة أيامٍ من كلِّ شهر ويكون بهذا ضيع ما هو أوجب عليه!
وكما قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "تجِدُ الرجلَ يتورّعُ عن القطرة من الخمر أو مِنِ استناده إلى وسادةِ حريرٍ لحظةً واحدةً، ولكنه يُطلِقُ لسانَهُ في الغيبة والنميمة في أعراض الخلق".
وفي هذا أيضاً يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهذا يُبتلى به كثيرٌ من المتدينة المتورعة؛ ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة، وعن الدرهم فيه شبهة؛ لكونه من مالِ ظالمٍ أو معاملةٍ فاسدةٍ، ويتورَّعُ عن الركون إلى الظلمة؛ من أجل البدع في الدين، وذوي الفجور في الدنيا، ومع هذا يَترُكُ أمورًا واجبةً عليه، إما عينًا، وإما كفاية، وقد تعيّنَتْ عليه من صلة رحمٍ، وحقِّ جارٍ، ومسكينٍ، وصاحبٍ، ويتيمٍ، وابن سبيلٍ، وحقِّ مسلمٍ، وذي سلطانٍ، وذي علمٍ، وعن أمرٍ بمعروفٍ، ونهيٍ عن منكرٍ، وعن الجهاد في سبيل الله، إلى غير ذلك مما فيه نفعٌ للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه، أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى، بل من جهة التكليف ونحو ذلك. وهذا الورع قد يوقِعُ صاحبه في البدع الكبار؛ فإنَّ ورع الخوارج، والروافض، والمعتزلة، ونحوهم من هذا الجنس، تورعوا عن الظلم وعما اعتقدوه ظلمًا من مخالطة الظلمة في زعمهم، حتى تركوا الواجبات الكبار من الجمعة والجماعة، والحج، والجهاد، ونصيحة المسلمين، والرحمة لهم".
وهذا النوع من الورع الكاذب البارد سماه الإمام أحمد رحمه الله بالورع المظلم.
روى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد بإسناده عن الأنماطي قال: "كنت عند أحمد بن حنبل وبين يديه محبرة، فذكر أبو عبد الله حديثا فاستأذنته بأن أكتبه من محبرته، فقال لي: اكتب يا هذا فهذا ورع مظلم. حيث أنكر الإمام أحمد هذا من هذا الشخص في مثل هذه الحال واعتبره شذوذاً لا ورعاً".
وقد سماه الإمام النووي رحمه الله بالوسوسة، حيث قال: "ولو امتنع من أكلِ طعامٍ حلالٍ لكونه حَمَلَهُ كافرٌ أو فاسقٌ بالزنا أو بالقتل ونحوه لم يكن هذا ورعاً، بل هو وسواسٌ وتنطّعٌ مذمومٌ، وقال: ولو حَلَفَ لا يلبس غزْلَ زوجتِهِ فباعَتْ غزْلَها ووهبَتْهُ الثمنَ لم يُكرَهْ أكلُهُ فإنْ تركَهُ فليس بورع بل وسواس".
وسماه الحافظ ابن حجر رحمه الله ورعَ الموسوسين، وقال: "كمن يمتنع من أكل الصيد خشية أن يكون الصيدُ كان لإنسان ثم أَفْلَتَ منه، وكمن يتركُ شراءَ ما يحتاج إليه من مجهول لا يدري أمالُهُ حلالٌ أم حرامٌ، وليست هناك علامةٌ تدل على الثاني".
3- الدين ميزان
وفي بيانٍ لطيف للإمام أحمد رحمه الله لضرورة فهم الأولويات بين الواجبات والمحرمات والمكروهات والفضائل، يقول وقد سُئِل رحمه الله عن رجل له زوجة، وأمُّهُ تأمُرُهُ بطلاقها فقال: "إنْ كان بَرّ أمَّهُ في كلِّ شيءٍ حتى لم يبقَ إلا طلاق زوجته؛ يفعل، ولكن إنْ كان يبُرُّها بطلاق زوجته ثم يقوم إلى أمه بعد ذلك فيَضربها فلا يفعل...!".
وما أعظم الحديث الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، حيث يقول: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).
حيث رتّب هذا الحديثُ التدينَ الصحيحَ، فيكون التقرُّبُ أولاً بالواجب، سواء الواجب من جهة الفعل كإقامة الأركان، أو من جهة الترك كترك المحرمات والكبائر، ثم بعد ذلك بفعل القًرَبِ والمندوبات، وهكذا يُبنى الرقي في التدين على سّلّمٍ صحيح يضع الواجب في مكانه والمندوب في مكانه، ولا يطغى حق على حق.
ومن جميل وجليل ماورد في ديننا من مراعاة هذه الحقوق بميزان عادل، بحيث لا يطغى حقٌّ على حقٍّ، قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن لأهلك عليك حقاً، وإن لضيفك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً).
وفي حديث الثلاثة المشهور، جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا أي رأوها قليلةً بالنسبة لما ينبغي لهم، فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: (أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي).
إنّ من أعظم مايُلبِّس به إبليس على الناس هو هذا الباب الذي يختلُّ فيه التوازن، فلا يطغى حقٌ على حق، ولا واجب على واجب، ولا مكروه على محرم، ولا مندوب على واجب.
وإليكم مثالٌ يظهر فيه شناعةُ اختلالِ هذا التوازن بصورة بشعة، حيث سأل شخصٌ الفقيهَ كيف يتصرف بعد أن زنى وحملت منه من الزنى!؟ فقال له الفقيه: "لمَ لمْ تعزِلْ"، قال: علمتُ أنّ العزلَ مكروهٌ، قال: "علمتَ أنّ العزلَ مكروهٌ ولَم تعلَمْ أنّ الزنا حرامٌ؟".
4- آفاتُ هذا الورعِ على مجتمعاتنا
وصورُ هذا الورع السامج المظلم في واقعنا شاهدةٌ حاضرةٌ وللأسف، وقد جَرَّتْ على أمتنا وعلى بيوتنا ويلات كثيرة، فمن صور ذلك مثلا:
عندما ظهرت عصابة الغلو والخوارج وطعنت المجاهدين في سوريا في ظهورهم، بدأنا نسمع عبارات هذا الورع البارد السامج المظلم، فيقولون: كيف أقاتل مَن يرفع راية التوحيد؟ ولا يزال يتعفّفُ ويتردد هؤلاء حتى فنيَ خيارُ المجاهدين كما حصل في العراق وغيرها من مناطق المسلمين، حيث تورعوا عن دماء أهدرها الله وأوجب قتال وقتل أصحابها.
فهنيئاً لأصحاب الورع البارد بما جَنَتْه أيديهم من مقتلةٍ عظيمة للمجاهدين وتمكينٍ للمنحرفين سفاكي الدماء! وليتهم فقهوا أمر رسول الله: (أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنّ قتلَهم أجرٌ لمن قتلهم يومَ القيامة).
ومن صور الورع البارد المظلم السؤال والتفتيش الذي يوقع الناس في الحرج، فلا يزال يفتش ويسأل حتى يوقع الناس في الحرج والضيق.
وكذلك من صور الورع البارد المظلم أنّ بعض الناس قد يترك صلاة الجماعة يقول: ربما الإمام فيه فسق وما شابه من الوساوس والظنون، فيترك الجمعة والجماعة، فهذا ورعٌ فاسدٌ.
ومن صوره كذلك: أنّ بعضهم حرم نفسه الدراسة وتحصيل علوم الدنيا والآخرة، وشنّع على الآخرين بحجة أنّ في طريق تحصيلها في واقعنا اليوم مخالفات لا تنفك عنها.
وهكذا يلبّسُ إبليسُ على المسلمين ويسعى لإضلالهم عن دينهم بمثل هذا الورع الزائف، ومن اتبع خطواته أضله بإلزاماته حتى يوقعه في الشدة والعنت والخروج عن حد المعقول، قال ابن القيم رحمه الله: "ولقد دخل هذا الورع الفاسد على بعض العباد الذين نَقَصَ حظُّهم من العلم حتى امتنع أن يأكل شيئاً من بلاد الإسلام، وكان يتقوّت بما يُحمل إليه من بلاد النصارى، فأوقعه الجهل المفرط والغلو الزائد في إساءة الظن بالمسلمين وحسن الظن بالنصارى نعوذ بالله من الخذلان".
ومما يلاحظ في سلوك أصحاب هذا الورع البارد المظلم أنهم يركزون على جانب الترك حتى يتورعون ويبالغون في جانب المكروهات مثلاً، لكنهم مقصرون مهملون لما يجب فعله، وكأن الورع الشرعي لا يشملها، مع أن فعل المأمور هو الأصل في الدين، وما شرع ترك المحظور إلا حماية لفعل المأمور وصيانة له، فأصبحنا نرى منهم من يسعى ليبني قصرا فإذا به يهدم مصرا، ومن يريد أن يطب زكاما فيحدث جذاما، وصار ما يراه أحدنا في لحظات قوة إيمانه -أو غروره- ورعا واحتياطا شرعة لازمة لكل الأمة في كل زمان وفي مكان، ومن خالفه في ذلك اعتبر منحلا مميعا أو فاسقا مبتدعا.
وهذه كلمة مضيئة لشيخ الإسلام ابن تيمية في بيان حقيقة الورع، يقول: "وتمام الورع أنْ يَعلمَ الإنسانُ خيرَ الخيرين وشرَّ الشرين، ويعلمَ أنّ الشريعةَ مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية، فقد يَدَعُ واجباتٍ ويفعلُ محرماتٍ، ويرى ذلك من الورع".
وينبغي أن نعلم أنّ هذا المرض إذا لم نعالجه سيتجذّر في النفس، ولا يَترُكُ صاحبَهُ حتى يخرجَهُ عن الجادة، ففي حديث الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اعدلْ يامحمد فإنك لم تعدل، قال فيه عليه الصلاة والسلام: (إنّ هذا مع أصحابٍ له، أو في أصحابٍ له يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية).
وقال أيضاً: (إن من ضئضئ هذا قوماً يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد).
وقد وقع مصداقُ ذلك حين قتلهم علي بن أبي طالب في معركة النهروان، وكذلك خرجوا على عثمان رضي الله عنه فقتلوه، وكلُّ ذلك وهو يطالبون بما هو ظاهره حرصٌ على الحقوق، وإنما هو ورعٌ بارد كاذب مظلم، من جنس هذا الورع الذي ذكره وحذّر منه العلماء.