مقدمة:
ينبغي على خطيب الجمعة أن ينطلق من وجهة نظرٍ ترى أنّ الانحرافَ الفكريَّ بكلِّ أشكاله في الوسط المسلم ما هو إلا الظرف الطارئ والقضية العارضة، وليس متولداً منه ولا متجذِّراً فيه، إذ الأصلُ السلامةُ والاعتدالُ؛ وترسيخُ هذه النظرة لدى العامة ضروريةٌ كمقدمةٍ لخطوات العلاج التي ترفعُ المعنويات نحو التصدي للاختلال والحد منها، ومن ثمّ إصلاح الطارئ منها، بل وتُنبِّهُ إلى أصحاب الفكر المنحرف، لتجعل من عين المجتمع المسلم أداةَ رصدٍ لكلِّ خطوةٍ أو فكرة مختلة، زيادةً على ما تمنحهم من ثقة زائدة بالمشروع الإسلامي وتطلعهم علي حقيقته، لذلك يجب على ذلك الخطيب أن يراعي ما يأتي:
توضيح مفهوم الوسطية: لا يمكننا أن نطلق على فكر ما صفة الانحراف والاختلال إلا إذا كان مجانباً لمنهج الوسطية الذي يعني: الاستقامة على المنهج الرباني، والبعد عن الميل والانحراف، إذ إن أمة الإسلام أمة الوسط في التشريع والعقيدة والعبادات والأخلاق، والأمم.
وإذ كان كل حزب يدعي تمثيله لهذه الوسطية، سواء أكان مفرطاً في الغلو أو مغال في التفريط، فإن من أوجب الواجبات على الخطيب المائل نحو الحق أن يجسد خطابه لتبيين صفة هذه الوسطية وحقيقتها، إذ بضدها تتمايز الأشياء، فهذه سنة النبيين، فعنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطًّا ثُمَّ قَالَ: (هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ)، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: (هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ)، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن الأمة بعد أن ذكر ضروباً من الوسطية: "فِي سَائِرِ أَبْوَابِ السُّنَّةِ هُمْ وَسَطٌ، لِأَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ".
تحديد سبب الانحراف: ولا يتحصل الإصلاح الفكري إلا بالتأكيد على مسؤوليات كل جهة في مقاومة الانحراف بتحديد سببه، فقد يكون السبب أسرياً أو اجتماعياً أو سياسياً أو اقتصادياً، وقد يكون سبباً خارجياً تسهل بعض الجهات عمله واقتحامه مجتمعنا... ومن ثم فتحديد السبب يحدد كيفية العلاج ويحدد مسؤوليات الجهات المشاركة في العلاج.
وإن إرساء قواعد الوسطيَّة بما تحمله من استقامة في الفكر واعتدال في المنهج ووضوح ف الرؤية وسلامة في المعايير والتزام بالمنهج الإلهي الرباني، لا تكون إلا بعد معرفة جوانب الانحراف، مسبباته وأركانه وأصوله والدواعي إليه، وأي محاولة للإصلاح بعيداً عن فهم هذه الحقائق ما هي إلا انحرف عن جادة الهدى.
لقد بدأ القرآن بعلاج الانحراف الفكري الذي يتبناه النصارى مثلاً من هذه الحقيقة، وهي أن الغلو هو الذي أدى إلى الانحراف، ولو تأملت هذا في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77].
وفي قوله عز وجل: {يا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171].
فالسياق يقرر انحراف النصارى الاعتقادي، وسبب هذا الانحراف.
توجيه العقول نحو الأهداف النبيلة والغايات السامية: لا شك أن الاختلال الفكري خطر كله على الأمة والمجتمع، إلا أن بعض الاختلالات أشد من بعض، إذ بعضها استهدف وجود الأمة أو كيانها، والنيل المباشر من دينها ومنهجها، وبعضه الآخر لا يمثل إلا طائف عارض قليل تأثيره هين خطره.
لذلك فإن الانشغال بتحقيق ما عظم من أهداف وما نبل من غايات من أهم أبواب مواجهة الانحراف الفكري، خاصة وإن أغلب المضللين فكرياً داخل المجتمع شوهت صورة الإسلام أمامهم وغابت عنهم أهدافه العظيمة وغاياته السامية.
لقد بين لنا الله جل جلاله الغاية النبيلة التي أرادها نبيه ابراهيم عليه السلام عندما سأله عن إحياء الموتى، يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260]
"لقد كشفت التجربة والحوار الذي حكي فيها عن تعدد المذاقات الإيمانية في القلب الذي يتشوف إلى هذه المذاقات ويتطلع.. لقد كان ينشد اطمئنان الأنس إلى رؤية يد الله تعمل واطمئنان التذوق للسر المحجب وهو يجلى ويتكشف".
الخطأ طبيعة البشر: لا يخفى على أحد أن الله جل جلاله قد جبل البشر على حصول الأخطاء في واقع حياتهم ووقوع الغلط منهم، إذ هذه طبيعة طبعوا بها، سواء أكان معنوياً أم تطبيقاً أم فكرياً، قضية يجب أن تكون في الحسبان دوماً، وهذا ما يدل عليه عموم ما رواه أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ).
وقال ابن القيم: "يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَتَفَرَّدَ بِالْكَمَالِ كَمَا قِيلَ:
وَالنَّقْصُ فِي أَصْلِ الطَّبِيعَةِ كَامِنٌ فَبَنُو الطَّبِيعَةِ نَقْصُهُمْ لَا يُجْحَدُ
وَكَيْفَ يُعْصَمُ مِنَ الْخَطَأِ مَنْ خُلِقَ ظَلُوماً جَهُولًا، وَلَكِنْ مَنْ عُدَّتْ غَلَطَاتُهُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ مِمَّنْ عُدَّتْ إِصَابَاتُهُ".
بل يصح لنا أن نقول إن أغلب الأخطاء لا تنشئ إلا عن فهم فكري أو اشتباه نظري في قضاياها، وإدراك هذا يسهل ويسر العلاج والتصحيح.
ضرورة المسارعةُ إلى علاج الاختلال: إذ قد يؤدي إهماله أو الاستخفاف بأمره إلى ترسخه في أذهان الناس، وسيطرة ظله وكثرة معتنقيه، مما يصعب استئصاله وانتشار آثاره وعموم خطره.
ومن أدلة ذلك ما ثبت عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ).
فرسول الله صلى الله عليه وسلم عاجل إلى علاج بتر كل سبب قد يؤدي إلى نشوء خلل فكري، ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر يوم جاءه بكتاب أصابه من أهل الكتاب فقرأه عليه فغضب: (أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي).
تقديم الكليات على الجزئيات: لا ريب أن الاختلالات في الفكر تتنوع وتختلف قوة وخطوة، لذلك ينبغي على الخطيب أن يبدأ في طرح أكثرها تأثيرها وأعمها فساداً على واقع المسلمين أو مستقبلهم وهي الكليات، لينتقل بعد ذلك إلى ما هو أخف وأقل خطراً، فهذا هو منهج الرسل والأنبياء حيث كانوا يبدؤون بعلاج الفساد على مستوى الفكر الاعتقادي قبل غيره لأنه يوازيه فساد فكري كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36].
إن البدء بالأهم فالمهم من القواعد والمبادئ التي تحكم القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالرسل عليهم السلام بادروا أو ما بادروا به إلى إصلاح عقائد الناس منطلقين من زحزحة الفكر المختلة ذات التأثير الأكبر، ثم انطلقوا بتدرج في الانقضاض على باقي المفاهيم المغلوطة.
الانشغال بتصحيح أصل الخلل: سينتج عن الخلل الفكري آثار سلبية سيئة ونتائج خبيثة، قد تنصرف إليها الأنظار، وهذا ما سيكرس الخطأ الفكري لبقاء أصله ودوام مسببه، لذلك فإن الواجب البدئ ترك معالجة آثار الخطأ والانطلاق من مسببه.
وهذا واضح في دعوات الأنبياء، حيث أنهم لم ينظروا إلى آثار الاختلالات الناشئ في أقوامهم أولاً بقدر ما عملوا على علاج أصولها ومسبباتها، ولعل وضوح هذا يتبدى في معالجة نبي الله موسى عليه السلام للخلل الناشئ عن اتخاذ قومه العجل إلهاً من دون الله، لقد بادر إلى إحراقه، وطرد السامري الذي ابتدعه ونهى الناس عنه، فقال موسى للسامري: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا * إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 98].