1- لذَّة العطاء
2- وجوه الإنفاق
مقدمة:
لقد أكرم الله جل جلاله عباده بنعمة المال، ثمّ جعلها مادّة ابتلاءٍ {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التّغابن: 15].
فمَن اكتسبه مِن طريقٍ مشروعٍ، ثمّ أنفقه في وجوه الخير، كانت تجارته رابحةً {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر: 29].
ومَن حصّله مِن كسبٍ خبيثٍ، واستعان به على معصية الله سبحانه، أوصله إلى النّار {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التّوبة: 34].
ولذا فإنّ مِن فضل الله عز وجل على عباده، ورحمته بهم، أن شرع لهم مِن العبادات ما ينالون به رضاه، فلقد أرشدهم إلى الإنفاق في سبيله {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7].
ووعدهم بمضاعفة المال المنفَق منه {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 18].
مع ما ادّخره لهم مِن الأجر العظيم {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272].
فالإنفاق يجعل المسلم قريبًا مِن الله سبحانه ومِن النّاس، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الجَنَّةِ قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ، وَالبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ، وَالْجَاهِلُ السَّخِيُّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عز وجل مِنْ عَابِدٍ بَخِيلٍ).
كما أنّه بابٌ مِن أبواب التّكافل الاجتماعيّ، والتّعاون على البرّ والتّقوى، وبه تنتشر المحبّة، ويسود الوئام، وتختفي الشّحناء والخصام.
1- لذَّة العطاء
يَنشد كثيرٌ مِن النّاس السّعادة، ويطلبون الرّاحة، فيظنّونها في جمع المال؛ المحرّم والمباح، وقد أخطأ هؤلاء الطّريق، حيث لا راحة للعبد نفسيّةً، ولا سعادة للقلب مستقرّةً، إلّا في عبادة الله عز وجل، وكلّ سعادةٍ بغير طاعة الله سبحانه زائلةٌ، فالأغنياء الّذين يُغبَطون على ممتلكاتهم، وجدوا لذّةً في جمع المال وتنميته، فلمّا امتلأت به أرصدتهم ذهبت لذّته، ولكنّ نشوة العبادات لا تدانيها نشوةٌ، فهي السّعادة الّتي يطرب القلب لها، وينشرح الصّدر بها، وإنّ مِن الطّاعات الّتي تجلب للعبد السّعادة: الإنفاق في سبيل الله، فهي عبادةٌ ماليّةٌ؛ تقي النّفس شحّها، وتطهّرها مِن بخلها، فإذا ما تعوّد المؤمن الإنفاق ذاق لذّة العطاء، ووجدها أطيب مِن لذّة الأخذ وجمع المال، فيُقبِل على الإنفاق ممّا يحبّ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92].
ولقد عظمت عناية الشّارع الحكيم بهذا الأمر العظيم {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 133-134].
وضرب مثلًا في مضاعفة المال المنفَق منه {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261].
ثمّ إنّها تُنمّى للإنسان صدقته، عَنِ القاسِمِ بن محمدٍ، قَالَ: سَمعْتُ أبا هُريرةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله يَقْبَلُ الصَّدَقةَ وَيَأخُذُها بِيَمِينِهِ، فَيُرَبَّيهَا لِأحَدكُمْ كَمَا يُربِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ، حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ).
و الله سبحانه ينفق عليه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللهُ (أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ).
كما أنّ الصّدقات سببٌ لتكفير الخطيئات، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ: (.. وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ).
وستكون ظلًّا لصاحبها يوم القيامة، عَنْ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ).
2- وجوه الإنفاق
إنّ مِن رحمة الله بعباده أن جعل لهم أبواب الخير متعدّدةً ومختلفةً، لينالوا بها رضاه، فمنها الزّكاة المفروضة، حيث قرن ذِكرها بذِكر الصّلاة في أكثر الآيات {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43].
فالصّلاة تعصم الدّمّ، والزّكاة تعصم المال، قال أبو بكر بن العربيّ رحمه الله: "الزّكاة دليل صدق العبد في إيمانه، وتسليمه لربّه، وثقته في موعوده، ولذلك يبذل أغلى ما يملك عن طيب نفسٍ ورضىً، ومِن هذا القبيل أُطلق على الزّكاة لفظ الصّدقة {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التّوبة: 103]، وهي مأخوذةٌ مِن الصّدق في مساواة الفعل للقول والاعتقاد".
ومنها النّفقة الواجبة على النّفس والعيال والأقرباء، عَنْ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ ضي الله عنه قَالَ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ، وَهُوَ يَقُولُ: (يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ؛ أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ).
ثمّ حثّ الإسلام على الإنفاق في سبيل الله جل جلاله في شتّى المجالات، فجعل كفالة اليتيم سببًا مِن أسباب دخول الجنّة، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ).
ومِن وجوه الإنفاق: ترميم المدارس والمخابز والمستشفيات الّتي هدّمها النّظام البائد المجرم، وإصلاح الآبار ومحطّات المياه، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رضي الله عنه أَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ فَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ) قَالَ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (سَقْيُ الْمَاءِ).
فبناء المساجد وترميمها، ونشر العِلم، وإصلاح المرافق العامّة، وإيواء النّاس، مِن الصّدقات الّتي لا ينقطع ثوابها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، أَوْ مُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ..).
فمَن كان له سهمٌ في شيءٍ مِن هذا فقد فاز فوزًا عظيمًا {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274].
خاتمةٌ:
إنّ لكلّ عبادةٍ مِن العبادات الّتي شرعها ربّنا عز وجل شروطًا وآدابًا، فإذا حقّقها العبد قُبلت أعماله عند الله سبحانه، وإنّ مِن أعظم شروط الإنفاق: إخلاص النّيّة لله جل جلاله {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265].
وقال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 8-9].
فإذا ما قصد المنفِق بنفقته غير وجه الله سبحانه رُدّت عليه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؤضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ اللهُ تعالى: (أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ).
كما حثّ ربّنا عز وجل على أن يكون الإنفاق مِن كسبٍ طيّبٍ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267].
وجعل المنّ والأذى محبطًا للعمل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 264].
فلنحرص على البذل والعطاء، ولنعلم أنّ الله سبحانه يعطي كلّ منفقٍ خلَفًا، وكلّ ممسكٍ تلَفًا، ولنشارك بسهمٍ في حملات التّبرّع لبلدنا، لتكون عامرةً بأهلها، ويعود إليها الاستقرار، فبالإنفاق نحظى بالرّضوان، ونستظلّ بظلّ الرّحمن، وتقوى الرّوابط الاجتماعيّة والأسريّة، وليكن ذلك متوَّجًا بتاج الإخلاص، ليُرفع عنّا البلاء، ويُرَدّ كيد الأعداء.