1- أنواع العدل
2- نماذج في العدل
مقدمة:
أمر الله عز وجل عباده بما يقوم عليه نظام الدّنيا، ويكفل للنّاس السّعادة في الآخرة فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النّحل: 90].
وبدأ أمره بالعدل الّذي هو جماع الفضائل، وقوام صلاح المجتمع، فالعدل ميزان الله جل جلاله الّذي وضعه للخلق، ونصبه للحقّ، به تلتئم الشّعوب، وتأتلف القلوب، وتخصب البلاد، وتسعد العباد، ولقد جعله الله سبحانه مِن أبرز صفات الأنبياء والمرسلين، {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213].
فإذا ظهرت أمارات العدل -بأيّ طريقٍ كان- فثمّ شرع الله سبحانه، قال الإمام السّعدي: "العدل الّذي أمر الله جل جلاله به يشمل العدل في حقّه وفي حقّ عباده، فالعدل في ذلك أداء الحقوق كاملةً موفّرةً، بأن يؤدّي العبد ما أوجب الله عليه مِن الحقوق الماليّة والبدنيّة، والمركّبة مِنهما، ويعامل الخلق بالعدل التّامّ، فيؤدّي كلّ والٍ ما عليه تحت ولايته، سواءً في ذلك ولاية الإمامة الكبرى، وولاية القضاء، وغيرها، و لقد فرض الله عز وجل العدل على عباده، وجعله شاملًا لكلّ المجالات، حيث يعامل النّاس بعضهم بعضًا في عقود البيع والشّراء -وسائر المعاوضات- بإيفاء جميع ما عليهم، وبهذا يكون العدل واجبًا في كل شيءٍ، والإحسان فضيلةً مستحبًّا".
ولقد نهى الله جل جلاله عباده أن يصرفهم عن العدل صارفٌ {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النّساء: 135].
قال ابن كثيرٍ رحمه الله: "{شُهَدَاءَ لِلَّهِ}: كما قال: {وأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}، أي: ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله سبحانه، فحينئذٍ تكون صحيحةً عادلةً حقًّا، خاليةً مِن التّحريف والتّبديل والكتمان، ولهذا قال: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}، أي: اشهد بالحقّ ولو عاد ضررها عليك".
ومِن هنا كان العدل مِن أعظم الأخلاق، فَبِهِ تبقى المجتمعات وتستقرّ، وبدونه تزول الممالك وتنهار.
عليك بالعدل إن وُلِّيت مملكةً واحذر مِن الجَور فيها غاية الحذرِ
فالمُلك يبقى على عدل الكفور ولا يبقى مع الجَور في بدوٍ ولا حضرِ
1- أنواع العدل
إنّ العدل الّذي أمرنا الله سبحانه بإقامته، ورغّبنا في الالتزام به، يدخل في جميع مناحي الحياة، وفي مقدّمتها عدل الولاة، سواءً كانت الولاية خاصّةً أو عامّةً، فقد أُمر الوالي أن يعدل بين الرّعية، وأن يستعين بأهل العدل، قال ابن تيمية رحمه الله -بعد أن ذكر عموم الولايات وخصوصها كولاية القضاء، وولاية الحرب، وولاية المال-: "جميع هذه الولايات هي في الأصل ولايةٌ شرعيّةٌ، ومناصب دينيّةٌ، فأيُّ رجلٍ عدل في ولايةٍ مِن هذه الولايات؛ فساسها بعلمٍ وعدلٍ، وأطاع الله ورسوله بحسب الإمكان، كان مِن الأبرار الصّالحين، وأيُّ رجلٍ ظلم وعمل فيها بجهلٍ فهو مِن الفجّار الظّالمين، كما يجب على كلّ وليّ أمرٍ أن يستعين بأهل الصّدق والعدل، وإذا تعذّر ذلك استعان بالأمثل فالأمثل".
ولذا كان الإمام العادل أوّل مَن يقف في ظلّ عرش الله جل جلاله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ).
وذلك لأنّ الحاكم إذا أرسى دعائم العدل، استقرّت أمور النّاس، وعاش النّاس في راحةٍ واطمئنانٍ، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: "قالت الحكماء: ممّا يجب على السّلطان العدل في ظاهر أفعاله، لإقامة أمر سلطانه، وفي باطن ضميره، لإقامة أمر دينه، فإذا فسدت السّياسة، ذهب السّلطان، ومدار السّياسة كلّها على العدل والإنصاف، لا يقوم سلطانٌ لأهل الكفر والإيمان إلّا بهما، مع ترتيب الأمور مراتبها، وإنزالها منازلها".
كما يجب العدل في القضاء، والحكم بين النّاس، {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [البقرة: 15].
والعدل واجبٌ مع النّاس كلّهم، حيث قال الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم لمّا جاء اليهود ليحتكموا إليه: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42].
وذلك ترغيبٌ لأعداء الإسلام بالدّخول فيه، وهكذا تتوسّع دائرة العدل؛ لتشمل العدل مع الزّوجة، أو بين الزّوجات، {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النّساء: 3].
كما يؤمر الأب بالعدل بين الأبناء، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله: (اتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ).
وكذلك يؤمر المسلم بالعدل في الكيل والميزان {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [الأنعام: 152].
وفي الكلام أيضًا {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152].
فالمسلم عدلٌ بكلّ شؤون حياته، فطوبى لمَن علم وفهم، ثمّ توّج عِلمه بالعمل.
2- نماذج في العدل
العدل صفةٌ عظيمةٌ، وخُلقٌ فاضلٌ، يبعث الأمل في نفوس المظلومين، ويُعيد الحقوق إلى أصحابها، فيسعد النّاس، وتستقيم الحياة، ولذلك تخلّق به السّابقون الأوّلون، الّذين جعلوا الحقّ رائدهم، والعدل قائدهم، قدوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، الّذي كان نموذجًا للعدل في أعلى درجاته، عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ رَجُلًا صَالِحًا ضَاحِكًا مَلِيحًا، فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ الْقَوْمَ وَيُضْحِكُهُمْ فَطَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي خَاصِرَتِهِ، فَقَالَ: أَوْجَعَتْنِي، قَالَ: (اقْتَصَّ)، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَلَيْكَ قَمِيصًا، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيَّ قَمِيصٌ، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَهُ، فَاحْتَضَنَهُ، ثُمَّ جَعَلَ يُقَبِّلُ كَشْحَهُ، فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتُ هَذَا.
فسار على نهجه الخليفة الأوّل ؤضي الله عنه قائلًا: "القويّ فيكم ضعيفٌ عندي حتّى آخذ الحقّ مِنه، والضّعيف فيكم قويٌّ عندي حتّى آخذ الحقّ له".
ثمّ كان عمر رضي الله عنه يجتمع بعمّاله في المواسم ويقول لهم: "أيّها النّاس إنّي لم أبعث عمّالي عليكم ليصيبوا مِن أبشاركم، ولا مِن أموالكم، إنّما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمَن فُعل به غير ذلك فليقم"، فما قام إلّا رجلٌ واحدٌ، وقال: يا أمير المؤمِنين: إنّ عاملك فلانًا ضربني مائة سوطٍ، قال: فيم ضربته؟ قم فاقتصّ مِنه، فقام عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمِنين، إنّك إن فعلت هذا يكثر عليك، ويكون سنّةً يأخذ بها مَن بعدك، فقال: أنا لا أقيد، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيد مِن نفسه، قال: فدعنا فلنرضِه، قال: دونكم فأرضوه، فافتدى مِنه بمائتي دينارٍ، كلّ سوطٍ بدينارين.
ولمّا افتقد عليٌّ رضي الله عنه درعًا له ووجده عند يهوديٍّ، قال لليهوديّ: الدّرع درعي، لم أبع ولم أهب، فقال اليهوديّ: درعي وفي يدي، فقال: نصير إلى القاضي، فتقدّم عليٌّ، فجلس إلى جنب شريحٍ، وقال: لولا أنّ خصمي يهوديٌ لاستويت معه في المجلس، فقال شريحٌ: قل يا أمير المؤمِنين، فقال: نعم، هذه الدّرع الّتي في يد هذا اليهوديّ درعي، لم أبع ولم أهب، فقال شريح: إيش تقول يا يهوديّ؟ قال: درعي وفي يدي، فقال شريحٌ ألك بيّنةٌ يا أمير المؤمِنين؟ قال: نعم، قنبر والحسن، فقال شريحٌ: شهادة الابن لا تجوز للأب، فقال عليٌّ: رجلٌ مِن أهل الجنّة لا تجوز شهادته؟! فقال اليهوديّ: أمير المؤمِنين قدّمني إلى قاضيه: وقاضيه قضى عليه، أشهد أنّ هذا هو الحقّ، وأشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّدًا رسول الله، وأنّ الدّرع درعك.
وقال ميمون بن مهران: "سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: لو أقمت فيكم خمسين عامًا ما استكملت فيكم العدل".
ولذلك كانوا خير رعاةٍ لخير رعيّةٍ، وقد أُمرنا أن نهتدي بهديهم، حتّى نسعد بسعادتهم.
خاتمةٌ:
العدل خُلُق العظماء، وصفة الأتقياء، ومقوّمٌ أساسيٌّ مِن مقوّمات الدّولة المسلمة، ولقد كان مِن أبرز أخلاق رسولنا صلى الله عليه وسلم، حيث كان عدلًا في تعامله مع ربّه، وعدلًا في تعامله مع نفسه، وعدلًا في تعامله مع النّاس أجمعين، حتّى العدوّ المعاند، له نصيبٌ مِن عدله صلى الله عليه وسلم، والعدل واجبٌ على الرّجل والمرأة، وعلى التّاجر والصّانع، والموظّف والعامل، ما داموا يعيشون في مجتمعٍ واحدٍ، وإنّ المسؤوليّة ملقاةٌ على كلّ أفراد هذه الأمّة، فإن قام بحقّها فقد نجا وأفلح، وإن قصّر وتهاون في أدائها فقد خاب وخسر {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92].
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ وَهْيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ).
فقد ذكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم الولايات كلّها، كبارها وصغارها، وأخبر أن مَن تولّى ولايةً كان مسؤولًا عنها، فإن عدل سَعِد و أُكرم، وإن ظلم شقي و عوقب، فعلى كلّ مسلمٍ أن يرعى الحقوق، ويحفظ العهود، ويقوم بالعدل، ويؤدّي الأمانة مع ربّه، ومع نفسه، وفي حكمه، وولايته، ثم مع النّاس أجمعين، ليفوز مع الفائزين، عن عبد الله بن عَمروٍ بن العاص رضي الله عنه، عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ المُقْسِطِينَ عِنْدَ الله تَعَالَى عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وِمَا وَلُوا).